البحث عن شرلوك العربي

20 ديسمبر 2019
منحوتتان لشخصيّتَي شرلوك هولمز ومساعده في موسكو (أندريه ماخونين)
+ الخط -

في كل مرّة يفكّر فيها الروائي العربي بكتابة رواية بوليسية، يظهر له ضابط البوليس الذي كان دائماً يُخيفه ويتحاشاه ويهرب من طريقه، فيقول لنفسه: هل هذا هو الضابط الذي سيكشف الجرائم الغامضة في روايتي، أم شخص آخر مخترَع تُضفي عليه الرواية سمات المخلص والمحقّق النزيه الذي يلاحق القتلة ويكشف جرائمهم؟

أفكّر بهذا لكثرة ما أرى من النقد واللوم، والتأنيب أحياناً، للروائي العربي الذي لا يكتب رواية بوليسية، وثمّة من يسأل لماذا لم تَلق الروايات العربية البوليسية القليلة التي صدرت هنا وهناك في العالم العربي، ما لاقته الروايات البوليسية المترجمة؟

ولكن، لكي نكتب رواية بوليسية ينبغي أن تتوفّر ثلاثة عناصر، بحسب جوليان سيمونز: جريمة غامضة في ظروفها وأسبابها وكيفية تنفيذها، ومجرم ذكي يستطيع إخفاء الجريمة، ومحقّق أو ضابط بوليس أو مخبر، يتجمّع له من النباهة والفطنة والطاقات الفكرية الخارقة ما يمكنه من حل ألغاز أي جريمة.

وما فات المتحمّسين لكتابة رواية بوليسية عربية، هو الخصوصية التي يتميّز بها الواقع العربي في ما يخص العنصر الثالث؛ إذ يجد الروائي العربي نفسه في مواجهة بطل روائي جديد لا يحبه أو لا يثق به في الواقع. كيف يمكن أن ينشأ أدب بوليسي في ثقافة تخشى البوليس؟ كيف يمكن أن يكون المحقق محبوباً في النص، مكروهاً أو مخيفاً في الواقع؟ كيف يمكن أن يكون المحقّق، واسمه مستمد من التحقيق والحقيقة، بطلاً شعبياً إذا كان منحازاً، ضمناً، إلى القوي لا إلى الضحية؟ إلى الزيف لا إلى الحقيقة؟

ومن المحتمل أن يصنع الروائي العربي، في الرواية البوليسية بطلاً مزيَّفاً لا وجود له في الواقع، وهي مسألة فنية وفكرية تضعنا أمام السؤال عن طبيعة الرواية، وعمّا إذا كان من المقبول تزييف الحقائق خدمةً للنوع أو الفن.

وبالنظر إلى تاريخ البوليس العربي، فإن الوقائع تشير إلى علاقة قائمة على القمع والتخويف، لا الحماية والأمان اللذين يُعتبران شرطاً مهمّاً من شروط البطل الجنائي المفترض هنا، أو ذلك الذي عرفته الرواية البوليسية في العالم، فمجرّد تدخُّل شرلوك هولمز في أي جريمة، في أعمال آرثر كونان دويل، ينشر الأمان والطمأنينة إلى أن المجرم لن يفلت بجريمته، إضافة إلى أن النص الروائي، أو المادة التي نقلت إلى السينما، يعتمد على عنصر التشويق والمفاجأة.

وثمّة احتمال أن يسبق الكاتب الروائي العربي، إذا ما توفّر لدينا كاتب روايات بوليسية ماهر، المحقّق العربي. فمن المعروف أن المئات بل الآلاف من الجرائم المعقّدة حُفظت، ثم مضى عليها ما يسميه قانون الجريمة "التقادم"، لأن البوليس العربي لم يستطع كشفها. بينما نجد أدوات التحقيق الجنائي، ودوائره، تضمّ مختصّين دارسين في الدول التي عرفت النتاج الروائي البوليسي. والتباكي أو الخيبة من عدم وجود رواية بوليسية في الأدب العربي، قد يجدان حلّاً ذات يوم، حين يتحقّق ذلك الحلم الذي يجعل البوليس ضامناً للحياة لا معادياً لها.

المساهمون