07 نوفمبر 2024
البابا وشيخ الأزهر والتسامح المفقود
يمثل بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر أدوارا كبرى في الإسلام والمسيحية، وطبعاً هناك رجالات دين آخرون، ولهم مكانة كبرى أيضا، وهناك مؤسسات دينية في أغلبية الدول، ودورها في دولها أهم من أدوار البابا والشيخ معاً، وبالتالي ليس صحيحاً تعظيم دور الرجلين، وكأنهما يأمران كل المسلمين والمسيحيين فيُطَاعان.
ليست جديدة اللقاءات بين رجال الدين المختلفين في العقائد، وهناك مؤتمرات كثيرة عُقدت للغاية نفسها، "التسامح والتعايش بين الأديان ونبذ التعصب"، ولكن ذلك كله لم يضع حدّاً للتعصب والانغلاق وكراهية الآخر، وتهجير الجماعات الدينية المختلفة في بلدانٍ كثيرة، وليس آخرها الصين أو ميانمار أو العراق وسواها؛ وعدا ذلك كله بقاء السعودية بلداً عصيّاً عن وجود المسيحيين أو المذاهب الدينية المختلفة بشكلٍ علنيٍّ. أردت القول إن زيارة البابا والشيخ أبوظبي كانت ستصير مفيدةً لو أن للرجلين أدواراً إيجابية في رؤية جديدة للأديان. أمّا وأنّ رؤيتهما ما زالت هي هي، فإن هذه الزيارة جاءت في الوقت الخطأ، ولصالح دولة الإمارات، المتورّطة بحربٍ كارثيةٍ ضد الشعب اليمني، وداعمةً أنظمةً استبداديةً كثيرة، وأولها نظاما عبد الفتاح السيسي في مصر ومحمد بن سلمان في السعودية، وبالتالي عن أيِّ تسامحٍ وحوارٍ وتعايش مشترك تتحدّث "وثيقة الأخوة الإنسانية" التي وقّعها البابا والشيخ في أبوظبي.
المكانة التي يتبوؤها رجلا الدين أعلاه تدفعهما إلى تحمل مسؤوليات كبرى، ومواجهة حقيقية
مع قوى التعصّب والتطرّف. والسؤال هنا: كيف ينتج الإرهاب والتطرّف، أهو فقط من قراءةٍ دينية خاطئة، كما تتضمن خفايا مقولة الأخوة الإنسانية؟ أم بسبب سياسات الأنظمة الفاشلة في ميدان الاقتصاد والأنظمة التعليمية المتخلفة والدساتير الطائفية! تتطلب مواجهة الإرهاب والجهاديين أولاً تحوّلاً ديمقراطياً، ينطلق من الديمقراطية شكلا للحكم، ومن الصناعة وتشغيل ملايين العاطلين، ومكننة الزراعة، وهذا يتطلّب تأييدَ الثورات وأهدافها، وليس محاربتها، كما فعلت دولة الإمارات التي دعمت نظام السيسي ومجموعات الثورة المضادة في أكثر من دولةٍ عربية.
هناك قضية تتعلق بمفهوم التسامح، فقد أصبح مفهوماً بالياً، ولم يعد الشعب رعيةً، أو جاهلاً أو دينياً فقط، ليتم استخدام التسامح "الديني" معه. للشعوب حقوق، وهي ليست منّةً من أحدٍ، وهناك أشكال جديدة لحماية حقوق البشر، وتعتمد مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. يعيد مفهوم التسامح البشرية إلى عصورٍ خلت، حيث الراعي والرعية. أطلقت دولة الإمارات على 2019 الجاري بأنّه عام التسامح، ووفقاً لما حلّلنا أعلاه، ووفقًا لممارساتها في اليمن وليبيا ودعم السيسي، ومحاولة إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، واعتقالها ناشطين وأصحاب رأي إماراتيين وعربا، ولأبسط الأسباب، يدفعنا إلى القول إن إطلاقها ذاك الاسم ينسجم مع رؤيتها للإماراتيين ولبقية الشعوب، بأنهم مجرّد رعايا، ويجب تأديبهم، وبذلك يصبح مفهوم التسامح أداةً للغاية ذاتها، حيث تأديب الشعوب الثائرة يتمّ، إما عبر القتل أو السجن أو التسامح، وفق مشيئة ولي الأمر، ووفق عطفه ومشيئته وتسامحه.
لا تتطرق هذه السطور لموضوع حصار دولة قطر، والتي يقودها بشكل رئيسي ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، الذي يسيطر على ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، ويدفعه إلى رفض تخفيف ذلك الحصار. ولكن لماذا صمتت جماعة الأخوة الإنسانية عن هذه الجريمة مثلاً؟ ألم يكن أجدر بهم فتح ملفات حصار قطر واليمن والاعتقال داخل الإمارات والسعودية وانقلاب السيسي، ومحاولاته أخيرا تغيير الدستور المصري ولصالح رجل واحد اسمه السيسي والتمديد له؟ لا يفسّر القول إن قطر داعمة جماعة الإخوان المسلمين شيئاً، فهؤلاء كانوا ممثَلين في البرلمان المصري قبل 2011، وحركة النهضة ممثلة في الحكم التونسي منذ 2011، وهناك تجارب لتنظيمات الإخوان في عدة دول عربية. وعلى الرغم من نقدنا لها، في تديينها السياسة، ومحاولاتها توظيف الدعوي من أجل السياسة وفي الصراع السياسي، فإن تهمة دعم الإخوان ليست حقيقية، ثم ماذا تفعل الإمارات والسعودية مع جماعاتٍ دينيةٍ كثيرةٍ وفي أكثر من دولة عربية!؟ القضية هنا تكمن في اختلاف السياسات بين دول الخليج، ويفترض أن يكون الأمر حقاً للدول، وليس أمراً متاحاً للتدخل بشؤون الدول الأخرى. ضمن ذلك الإطار، كسوريٍّ، أقول: كان من أكبر كوارث الثورة السورية التدخل الخارجي، فقد كان سبباً لتفشيلها وأسلمتها، وفي هذا تعاونَ كل من حلف النظام السوري والحلف الذي قيل إنه داعمٌ للثورة السورية.
على كل حال، وبخصوص قضية الدين، الحاسم، من أجل الدين والبشر، هو حصر الدين
بشؤون العبادة وتنزيه الخالق، وفي شأن البشر إعطاؤهم الحق المطلق في إدارة شؤون حياتهم، وبالتالي تحييد الدولة إزاء الأديان، ورفض كل تسييسٍ لها. وفي هذا الإطار، يجب إطلاق إصلاح ديني، يعيد تأويل النصوص الدينية بما ينسجم مع مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان ومفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة. هذا ما كان على الشيخ والبابا وعيه بعمق، وتلمّس روح العصر، وبذلك فقط يمكن إرساء تعايش مشترك بين المواطنين المتساوين في الحقوق. وضمن ذلك، يمكن رفض كل أسباب التعصّب والانغلاق، السياسية منها والدينية.
أخيراً، لم يُرسِ تكرار اللقاءات والمؤتمرات بين القيادات الدينية أسس التسامح الديني أبداً؛ وحينما أرسيت من قبل، كان ذلك في عهد الدول القوية في العصور الوسطى، أو في عهد الدول الوطنية قبل السبعينيات، وهو حال دولنا العربية. لا يتم تحقيق التسامح عبر الدين، بل عبر إصلاحٍ ديني، وعبر تغيير السياسات العامة للدول. وفي هذه القضية، يمكن لرجال الدين ترك رسم السياسات للشعوب ولصراعاتها، والتفرّغ لشؤون العبادة والتنديد بمختلف أشكال التعصب والطائفية. أمّا علاقة الأزهر مع النظام الحاكم في مصر، وبما ينتجه من فكرٍ ومواقف وفتاوى، وعلاقة البابا مع أنظمة الحكم، فلا تفيد بتخفيف التعصب والتطرّف، بل تزيدها.
ليست جديدة اللقاءات بين رجال الدين المختلفين في العقائد، وهناك مؤتمرات كثيرة عُقدت للغاية نفسها، "التسامح والتعايش بين الأديان ونبذ التعصب"، ولكن ذلك كله لم يضع حدّاً للتعصب والانغلاق وكراهية الآخر، وتهجير الجماعات الدينية المختلفة في بلدانٍ كثيرة، وليس آخرها الصين أو ميانمار أو العراق وسواها؛ وعدا ذلك كله بقاء السعودية بلداً عصيّاً عن وجود المسيحيين أو المذاهب الدينية المختلفة بشكلٍ علنيٍّ. أردت القول إن زيارة البابا والشيخ أبوظبي كانت ستصير مفيدةً لو أن للرجلين أدواراً إيجابية في رؤية جديدة للأديان. أمّا وأنّ رؤيتهما ما زالت هي هي، فإن هذه الزيارة جاءت في الوقت الخطأ، ولصالح دولة الإمارات، المتورّطة بحربٍ كارثيةٍ ضد الشعب اليمني، وداعمةً أنظمةً استبداديةً كثيرة، وأولها نظاما عبد الفتاح السيسي في مصر ومحمد بن سلمان في السعودية، وبالتالي عن أيِّ تسامحٍ وحوارٍ وتعايش مشترك تتحدّث "وثيقة الأخوة الإنسانية" التي وقّعها البابا والشيخ في أبوظبي.
المكانة التي يتبوؤها رجلا الدين أعلاه تدفعهما إلى تحمل مسؤوليات كبرى، ومواجهة حقيقية
هناك قضية تتعلق بمفهوم التسامح، فقد أصبح مفهوماً بالياً، ولم يعد الشعب رعيةً، أو جاهلاً أو دينياً فقط، ليتم استخدام التسامح "الديني" معه. للشعوب حقوق، وهي ليست منّةً من أحدٍ، وهناك أشكال جديدة لحماية حقوق البشر، وتعتمد مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. يعيد مفهوم التسامح البشرية إلى عصورٍ خلت، حيث الراعي والرعية. أطلقت دولة الإمارات على 2019 الجاري بأنّه عام التسامح، ووفقاً لما حلّلنا أعلاه، ووفقًا لممارساتها في اليمن وليبيا ودعم السيسي، ومحاولة إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، واعتقالها ناشطين وأصحاب رأي إماراتيين وعربا، ولأبسط الأسباب، يدفعنا إلى القول إن إطلاقها ذاك الاسم ينسجم مع رؤيتها للإماراتيين ولبقية الشعوب، بأنهم مجرّد رعايا، ويجب تأديبهم، وبذلك يصبح مفهوم التسامح أداةً للغاية ذاتها، حيث تأديب الشعوب الثائرة يتمّ، إما عبر القتل أو السجن أو التسامح، وفق مشيئة ولي الأمر، ووفق عطفه ومشيئته وتسامحه.
لا تتطرق هذه السطور لموضوع حصار دولة قطر، والتي يقودها بشكل رئيسي ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، الذي يسيطر على ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، ويدفعه إلى رفض تخفيف ذلك الحصار. ولكن لماذا صمتت جماعة الأخوة الإنسانية عن هذه الجريمة مثلاً؟ ألم يكن أجدر بهم فتح ملفات حصار قطر واليمن والاعتقال داخل الإمارات والسعودية وانقلاب السيسي، ومحاولاته أخيرا تغيير الدستور المصري ولصالح رجل واحد اسمه السيسي والتمديد له؟ لا يفسّر القول إن قطر داعمة جماعة الإخوان المسلمين شيئاً، فهؤلاء كانوا ممثَلين في البرلمان المصري قبل 2011، وحركة النهضة ممثلة في الحكم التونسي منذ 2011، وهناك تجارب لتنظيمات الإخوان في عدة دول عربية. وعلى الرغم من نقدنا لها، في تديينها السياسة، ومحاولاتها توظيف الدعوي من أجل السياسة وفي الصراع السياسي، فإن تهمة دعم الإخوان ليست حقيقية، ثم ماذا تفعل الإمارات والسعودية مع جماعاتٍ دينيةٍ كثيرةٍ وفي أكثر من دولة عربية!؟ القضية هنا تكمن في اختلاف السياسات بين دول الخليج، ويفترض أن يكون الأمر حقاً للدول، وليس أمراً متاحاً للتدخل بشؤون الدول الأخرى. ضمن ذلك الإطار، كسوريٍّ، أقول: كان من أكبر كوارث الثورة السورية التدخل الخارجي، فقد كان سبباً لتفشيلها وأسلمتها، وفي هذا تعاونَ كل من حلف النظام السوري والحلف الذي قيل إنه داعمٌ للثورة السورية.
على كل حال، وبخصوص قضية الدين، الحاسم، من أجل الدين والبشر، هو حصر الدين
أخيراً، لم يُرسِ تكرار اللقاءات والمؤتمرات بين القيادات الدينية أسس التسامح الديني أبداً؛ وحينما أرسيت من قبل، كان ذلك في عهد الدول القوية في العصور الوسطى، أو في عهد الدول الوطنية قبل السبعينيات، وهو حال دولنا العربية. لا يتم تحقيق التسامح عبر الدين، بل عبر إصلاحٍ ديني، وعبر تغيير السياسات العامة للدول. وفي هذه القضية، يمكن لرجال الدين ترك رسم السياسات للشعوب ولصراعاتها، والتفرّغ لشؤون العبادة والتنديد بمختلف أشكال التعصب والطائفية. أمّا علاقة الأزهر مع النظام الحاكم في مصر، وبما ينتجه من فكرٍ ومواقف وفتاوى، وعلاقة البابا مع أنظمة الحكم، فلا تفيد بتخفيف التعصب والتطرّف، بل تزيدها.