الانهيار العراقي المديد: صراع دولي وغليان شعبي وارتهان للخارج

06 سبتمبر 2018
تجددت التظاهرات في البصرة (حيدر محمد علي/فرانس برس)
+ الخط -
على نحو بطيء ومنذ أشهر عدة، يتسلل مزيد من الجنود الأميركيين إلى العراق عبر الكويت وتركيا، متمركزين في قواعد ومعسكرات متقدمة شمال البلاد وغربها. في المقابل، ترفع إيران وتيرة دعمها لفصائل عراقية مسلحة تدين بالولاء لها داخل البلاد. وفي موازاة ذلك، يحقق رئيس الوزراء حيدر العبادي، تقدماً في تعزيز قدرات الجيش العراقي وتحصين رئاسة الأركان وقيادة سلاح الجو، وجهاز مكافحة الإرهاب وقوات التدخل السريع تحديداً، ويعلن نفسه رئيساً لفصائل الحشد الشعبي. ووسط كل ذلك، تتعثر العملية السياسية في العراق مجدداً وتصل إلى مراحل حرجة تحت الضغطَين الأميركي والإيراني. فما بين تهديدات زعيم تحالف الفتح، القيادي في الحشد الشعبي هادي العامري، الأسبوع الماضي، بإسقاط أي "حكومة عميلة" يتم تشكيلها بـ"تدخل أميركي"، وما بين تلويح أعضاء وقيادات صدرية بـ"النزول إلى الشارع" في حال تم الالتفاف على استحقاق تحالف سائرون الانتخابي وتم إقصاؤه من تشكيل الحكومة، تقف بلاد الرافدين على مفترق طرق حرج للغاية.



غليان البصرة
في هذه الأثناء، ومنذ يومين، تغلي محافظة البصرة بدءاً من الزبير وأبو الخصيب مروراً بالفاو جنوباً مع إيران ولغاية شط العرب والتنومة وانتهاءً بمدينة سفوان على الحدود مع الكويت، وسط تسجيل سقوط أكثر من 80 قتيلاً وجريحاً غالبيتهم من أبناء القبائل، بعد ليلة طويلة أول من أمس وُصفت بالأعنف منذ اندلاع الاحتجاجات قبل نحو شهرين. وأحرق المتظاهرون مبانيَ حكومية ومقرات أحزاب ومراكز أمنية، وسط تهديد عشائري واضح في البصرة من أن "النجف ستستقبل مزيداً من أبناء البصرة"، في إشارة إلى أن المواجهة قد تصبح مسلحة في المدينة النفطية الواقعة على الخليج العربي، حيث تقع في النجف، ذات القدسية عند العراقيين الشيعة، مقابر من يتم اعتبارهم شهداء فيدفنون هناك من مختلف مناطق العراق.

وتؤكد مصادر حكومية في بغداد، في حديث مع "العربي الجديد"، نية رئيس الوزراء امتصاص الغضب الحالي في البصرة ومنع انتقاله مجدداً إلى مدن جنوبية أخرى من خلال خطوات عدة، أبرزها إقالة قيادات عسكرية وأمنية بتهمة منح أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين فضلاً عن دفع المبالغ التي وعد بها سابقاً بشكل فوري وتكليف الجيش العراقي بملف المياه في البصرة بشكل مؤقت.

من جهته، يقول سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "عمليات القمع في البصرة التي أدت إلى سقوط ضحايا فاقمت الأزمة". ويلفت إلى أن "أهل البصرة لم يلمسوا أي خدمات ولم تنفذ أي وعود لهم، والقمع الذي مارسته قوات الأمن خلال تشييع جنازة إحدى الضحايا غير مقبول ويجب أن يكون هناك تحقيق بما جرى". وحول أزمة الحكومة، يؤكد فهمي أن "الأيام المقبلة هي للتوصل إلى اتفاق على مرشح رئيس البرلمان. وبعد البرلمان تحسم رئاسة الجمهورية ومن ثم تكليف مرشح الكتلة الأكثر عدداً أو الكبرى في تشكيل الحكومة، مشيراً إلى أن اللقاءات والمشاورات كثيرة ولم تنته مع مختلف الأطراف. ويلقي مسؤولون عراقيون اللوم على ما يسمونه "القالب الأعوج" للعملية السياسية في العراق بعد الاحتلال، في بقاء البلاد تحت رحمة أزمات لا تنتهي وصولاً إلى المأزق الخطر هذه المرة.

صراع أميركي - إيراني
وفي السياق، يتحدث وزير عراقي رفيع في بغداد، عبر الهاتف مع "العربي الجديد"، بعد انتهاء اجتماع طارئ للحكومة حول الأوضاع في البصرة، قائلاً إن حرباً باردة أميركية - إيرانية بدأت فعلاً داخل العراق منذ مدة عنوانها انتزاع نفوذ.

ووفقاً للوزير نفسه، فإن "العملية السياسية وصلت إلى طريق مسدود بعد نحو 15 عاماً على الاحتلال. فالقالب الأول لها أعوج، وضعه الأميركي وتم تشييده على أساس طائفي". ويضيف: "القوات الأميركية تعزز قواتها في العراق بوحدات رصد واستطلاع غرب البلاد وفي إقليم كردستان وبشكل غير معلن وتبرر على أنها عملية استبدال لقوات ووحدات مكان أخرى وليست تعزيزات إضافية ولا يمكن التأكد من صحة ذلك". ويلفت إلى أنه "في الوقت نفسه، تزيد الولايات المتحدة من جرعات الدعم لوحدات خاصة داخل الجيش العراقي والحكومة تفعل الأمر نفسه. وبالنسبة إلى طهران فهي ترفع وتيرة دعمها لأحد عشر فصيلاً مسلحاً يدين بالولاء لها، وهي التي يُطلق عليها الآن عبارة أو مصطلح الحشد الولائي، وأبرزها العصائب وبدر والنجباء وحزب الله والخراساني وسرايا عاشوراء والإمام علي وجند الإمام، والحكومة تعي مخاطر الوضع بشكل واضح". ويشير إلى وجود مخاوف من إعادة إحياء تنظيم داعش لتمرير مشاريع أو الضغط به على أطراف داخل البلاد.



في المقابل، ينقل مقربون عن مقتدى الصدر قوله إن "المذهب الجعفري لا يوجب عليك أن تكون تابعاً لإيران بل على العكس فنحن أهل التشيع"، وذلك في معرض رده على موقفه من التنافس السياسي الأخير بين معسكره وائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي وهادي العامري ورفضه إعادة تشكيل البيت الشيعي مجدداً بتوجيهات إيرانية. وهو ما فهم منه في الوقت نفسه بداية صراع لرفض الوصاية الإيرانية المفروضة منذ قرابة العقد والنصف على القوى السياسية الشيعية وكذلك الواجهات الدينية لها.

وسواء صحت الرواية أم لم تصح، فشل قائد فيلق القدس قاسم سليماني، في جذب الصدريين للتحالف المرعي إيرانياً يؤكد أن ثمة تغييراً يجري بالعراق على مستوى القوى الشيعية، وأن القيادي بحزب الدعوة، رئيس الوزراء حيدر العبادي، هو أول شخصية تعلن أنها لن ترضي إيران على حساب العراقيين وتنتقد علناً مواقف إيرانية عدة تجاه العراق، آخرها ما يتعلق بقطع مياه نهر الكارون. وسبق ذلك إعلان العبادي عن التزام العراق بالعقوبات الأميركية على إيران.

في هذه الأثناء، صدر بيان موقع عن فصائل مسلحة عدة ضمن الحشد الشعبي يحذر من مؤامرة تشكيل "حكومة هزيلة" بأصابع أميركية - سعودية. وعلى الرغم من أن الدور السعودي لا يغادر موقعه التاريخي في العراق من كونه تابعاً للأجندة الأميركية، إلا أن الفصائل المسلحة تلك تحدثت عن "خيوط مؤامرة جديدة هي الأخطر في سلسلة المؤامرات الأميركية السعودية لفرض إرادة هذا التحالف على العراقيين، وتشكيل حكومة هزيلة ضعيفة تأتمر بأوامر المبعوث الأميركي بريت ماكغورك والوزير السعودي ثامر السبهان"، وفقاً لما ورد في البيان. وهددت بأن "هذه المؤامرة الدنيئة لن تمر أبداً، وعلى العراقيين جميعاً أن يعوا أن مستقبلهم الآن يمر بمنعطف خطير، وأنهم إذا لم يتصدوا بعزيمة لهذه المؤامرة فإنهم لن يجدوا بعدها فرصة لعض أصابع الندم"، على حد وصف البيان الذي ذُيل بتوقيع فصائل مسلحة بارزة في "الحشد الشعبي" معروف قربها من طهران مثل حزب الله، والعصائب، وبدر، وجند الإمام والخراساني، وعاشوراء، وأنصار العقيدة، والنجباء.

في موازاة ذلك، نقلت وسائل إعلام عراقية مقربة من الحشد الشعبي، عن قيادي وصفته بالبارز في المليشيا قوله، إن العبادي تلقى طلباً لعزل نائب رئيس الحشد أبو مهدي المهندس. وحذر من أن "قيادات الحشد الشعبي وفصائل المقاومة الإسلامية لن تأتمر بقيادة العبادي". وبحسب المسؤول ذاته، فإن "قيادات الحشد الشعبي وفصائل المقاومة الإسلامية وبعد إقالة فالح الفياض لم تعد تأتمر بقيادة العبادي للحشد الشعبي". وأشار إلى أنه يوجد "طلب أميركي على طاولة العبادي لعزل نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس ولن نسمح بذلك وسنحبط المخطط، لأن المهندس هو الأحق بتسلم منصب رئيس هيئة الحشد وليس العبادي".

انقسامات داخل الكتل
في هذه الأثناء، لا تزال الأزمة السياسية العراقية تتفاقم في ظل غياب مؤشرات إلى انفراجة واضحة ليس على مستوى المعسكرات المتنافسة بل داخل الكتل نفسها، فالقوى السنية قدمت حتى الآن سبعة مرشحين لرئاسة البرلمان وكل كتلة ترفض أن تسحب مرشحها، ومع ذلك فإنها لم تحقق أي لقاء بينها منذ انقسامها بين المعسكرين الشيعيين. وما يزيد من صعوبة الأمر أن معسكر نوري المالكي وهادي العامري باتا يدعمان رشيد العزاوي المرشح السني لشغل المنصب، وهو من قيادات الحزب الإسلامي العراقي، مقابل دعم الطرف المقابل أسامة النجيفي وما بينهم كتل أخرى داخل الفريقين طرحت أسماء محمد الحلبوسي وطلال الزوبعي وأحمد الجبوري ومحمد تميم بهدف التنافس على المنصب ذاته أو الحصول على ميزة بدلاً منه.
في المقابل، لم يحسم حتى الآن اسم مرشح نائبي رئيس البرلمان ولا مقرره وهم بالعادة شيعي وكردي وتركماني أو مسيحي بالنسبة إلى مقرر البرلمان. وبالتزامن يبقى البيت الكردي منقسماً في قضية رئيس الجمهورية. وتشي تسريبات من مصيف صلاح الدين في أربيل بأن الحزبين الكرديين الرئيسيين في كردستان دخلا فعلاً مفاوضات تهدف إلى حسم المنصب ومرشحه من خلال اتفاق شامل بسلة واحدة يتضمن اسم من سيتولى الوزارة السيادية التي هي من حصة الأكراد في بغداد عند تشكيل الحكومة، إضافة إلى ملف تشكيل الحكومة الجديدة للإقليم. وتستعد مفوضية الانتخابات بعد أسابيع لتنظيم الانتخابات المحلية في الإقليم كما أعلن مسبقاً.

وعلى مستوى البيت الشيعي، يؤكد عضو تحالف الفتح فاضل العبيدي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن المفاوضات شبه متوقفة ولا صحة لما يثار عن تحركات حثيثة، "فالأكراد أوقفوا كل شيء وينتظرون قرار المحكمة الاتحادية في تحديد الكتلة الكبرى". ويكشف أنّ "المحكمة الاتحادية لم تتلق طلباً من رئيس السن المؤقت للبرلمان محمد زيني كون الطلبات أو الاستفسارات الدستورية مناطة بالرؤساء الثلاثة الدائمين، لذا فإن قرار المحكمة سيكون مقيدا باختيار رئيس برلمان دائم". ويلفت إلى أنه يوجد "فهمان للكتلة الكبرى وأكثر من طرف يفسر بشكل مغاير"، متوقعاً ألا تشكل حكومة هذا العام.

من جهته، يقول الخبير في الدستور العراقي، طارق حرب، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الكتلة الكبرى يحددها رئيس البرلمان الدائم ورئيس السن المؤقت أدخل نفسه بشيء لا يعنيه. ويوضح حرب أن "الكتلة الأكثر عدداً نحتاجها في وقت لاحق، وبحسب المادة 76 من الدستور يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة الأكثر عدداً بتشكيل الحكومة، لذا لا علاقة للكتلة الأكثر عدداً بانتخاب رئيس البرلمان أو الجمهورية". وبالنسبة إليه "كان يتعين على رئيس السن المؤقت قبول طلبات الطرفين المقدمة له كونهما الكتلة الكبرى دون البت بها كونها لا تعنيه وأدخلنا في مشاكل كان يمكن تجنبها".

وأشار عدد من النواب إلى حالة عدم احترام وتنمّر بحق رئيس السن المؤقت محمد زيني، خلال جلستي الإثنين والثلاثاء الماضيين، خصوصاً من قبل نواب عن حركة العصائب والنائب عن ائتلاف المالكي كاظم الصيادي، كان من بينها منع زيني من تقديم نفسه عبر ورقة فيها سيرته الذاتية ورفض معسكر المالكي العامري لحديثه عن مخاطبة المحكمة الاتحادية ومخاطبته بعبارة (انت مالك دخل بهالسوالف). وينذر هذا الأمر بفوضى برلمانية في الجلسات المقبلة في حال لم يتم التوصل إلى رئيس برلمان دائم.

المساهمون