الانسحابات من "الجنائية الدولية": خطوة بلا جدوى قانونياً

30 نوفمبر 2016
تتخوّف روسيا من اتهامها بجرائم حرب في القرم(دان كتوود/Getty)
+ الخط -
فتح انسحاب روسيا ودول أفريقية من المحكمة الجنائية الدولية، باب التساؤلات حول انعكاسات ذلك على المحكمة وسير العدالة الدولية. لكن مختصين في القانون الدولي يرون أن هذا الانسحاب غير ذي جدوى قانونياً، على الرغم من أنها خطوة إلى الوراء في مسألة الوعي بالعدالة، مشيرين إلى أنه بغض النظر عن كل الانتقادات الموجّهة للمحكمة الدولية وبطء عملها، إلا أن العدالة ستتحقق "حتى لو تأخرت". التراجع الروسي، المعلن عنه قبل أيام، "ليس بمقدوره وقف عمل المحكمة أو جعل نظام القانون الدولي مستحيلاً"، وفق تقييم أحد كبار الخبراء الدنماركيين في السياسة الدولية، البروفسور في جامعة كوبنهاغن ميكل فيدبي. يرى فيدبي في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "بات يُصعّد أكثر فأكثر في سورية وأوروبا، لأنه يريد اتفاقاً ما مع البيت الأبيض في عهد الرئيس المنتخب دونالد ترامب، على الأقل في الإطار نفسه الذي عمل عليه مع إدارة باراك أوباما، لناحية بقاء بشار الأسد لفترة زمنية مؤقتة والتركيز على ما يسمونه الإرهاب في سورية". ولكنه يعتبر أن "بوتين ليس غير آبه بما تسجّله المنظمات الدولية من جرائم حرب تُرتكب في سورية، إذ خرج مفوض حقوق الإنسان في الأمم المتحدة زيد رعد الحسين أخيراً ليحذر روسيا بأن جرائم حرب تُرتكب في حلب، وكان ذلك بالتأكيد مقلقاً لبوتين".

مآزق بوتين
يشير الخبير الدنماركي في القانوني الدولي مارتن أندرسن، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الطرح الذي بدأ يأخذ مسارات جدية حول تجاوز الفيتو في مجلس الأمن من خلال طرح جرائم الحرب في سورية وغيرها على طاولة الجنائية الدولية، أمر مقلق لروسيا، وهي بذلك تحاول القول إنها لا تأبه لهذه المحكمة، بينما في الحقيقة هي قلقة مما يجري قانونياً عبر منظمات دولية مختلفة". 
أما الخبير في القانون الدولي وجرائم الحرب، البروفسور فريدريك هارهوف، الذي شارك كقاضٍ في محكمة جرائم الحرب حول يوغسلافيا، فيقول إنه "متأكد من أن فكرة العدالة الدولية لن تموت بمثل هذه الخطوة لطرف ينسحب كروسيا، فبالتأكيد ستتم معاقبة مرتكبي جرائم الحرب"، مضيفاً: "الاستسلام يعني عدم احترام الضحايا والنظام القضائي الدولي وأنفسنا، والخطوة الروسية هي تراجع مؤقت للعدالة الدولية".

ويشير بعض الخبراء الذين استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول انسحاب روسيا وبعض الدول الأفريقية من المحكمة الجنائية، إلى أن "روسيا في الأساس لم تُفعّل توقيعها سابقاً على نظام روما، الذي يسيّر في الحقيقة عمل المحكمة الجنائية، والإعلان الروسي يصبح بلا معنى لأنها بشكل غير مباشر لا تعترف بأهلية المحكمة سابقاً". ويرى الباحث في الشأن الروسي، النرويجي هولغر بلاكسيرود، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن بوتين يعيش مآزق كثيرة في علاقته بالغرب وفي الداخل الروسي على الطريق نحو الانتخابات المقبلة، شارحاً أن "هناك تحديات كثيرة، ولعل ملامحها في العلاقة مع واشنطن واضحة وخصوصاً مع دونالد ترامب بعد أن أبدى بوتين سعادته الأولى لانتخابه، ونحن أمام مناورات مفتوحة من دون لغة مشتركة حتى الآن"، مضيفاً: "استراتيجية بوتين واضحة: مضايقة الغرب في سورية في كل خطوة يُقدم عليها بما فيها القصف الذي لن يتراجع عنه في سورية". وجهة النظر تلك يتبناها أيضاً ميكل فيدبي، الذي يتوقع أن "تظل روسيا تقصف بعنف في سورية، فبوتين يرى ذلك فرصة لإعادة بعض أمجاد روسيا السابقة"، معتبراً أن "مشكلة روسيا ستكمن في ما إذا كان ترامب سيقوم بالفعل بالانعزال عن الشرق الأوسط مُسلّماً القضية لروسيا، أم أنه سيخضع (ترامب) لخبراء ومختصين في مطامع روسيا فيقومون بفرملتها"، مضيفاً: "الرجلان أبديا سعادة حول خطاب مشترك أثناء الحملة الانتخابية، لكن سننتظر ونرى ربما مفاجآت لم يتوقعها بوتين".


الاستعجال الروسي بالانسحاب
القلق الذي أبدته منظمات حقوقية حول تراجع دول أفريقية عن تأييد المحكمة الدولية، وتفكير كينيا بهذه الخطوة، بالإضافة إلى الخطوة الروسية، يراه البروفسور هارهوف ومعه أستاذة القانون الدولي في جامعة كوبنهاغن إيرينا مارشوك "مقلقاً بالطبع، لكن لن يكون للانسحاب الروسي أي تأثير عملي على المحكمة الجنائية الدولية ولا على نظام روما الأساسي. فروسيا تعاونت سابقاً، إلى حد ما، مع المحكمة في قضية جورجيا، والآن تعرف المحكمة أن الروس لن يتعاونوا معها في قضية أوكرانيا، وهذا هو قمة ما يمكن لروسيا فعله، لكن ذلك لا يوقف سير العدالة أبداً".

أما لماذا استعجل الروس في الأسبوع الماضي بإعلان سحب اعترافهم، أو تأييدهم للمحكمة الجنائية الدولية، فيعيد مارتن أندرسن ذلك إلى أن "هناك تحضيرات قانونية لرفع قضية جرائم حرب ضد روسيا لاحتلالها غير القانوني شبه جزيرة القرم، والأمر أيضاً ليس بعيداً عن سورية في محاولة بوتين المقايضة التي ما يزال الغرب يرفضها". السبب الأساسي الذي دفع روسيا إلى هذه الخطوة، إلى جانب الحديث عن سورية والجرائم فيها، كان مرده برأي هؤلاء الخبراء القانونيين الذين تحدثوا لـ"العربي الجديد"، إلى أنها "خطوة جاءت بعد أن قامت المدعية العامة المحكمة فاتو بنسودا بنشر تقرير قبل أيام أكد أن القوات الروسية كانت مشاركة في احتلال شرق أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم".


يؤكد مارتن اندرسن أن خطوة روسيا "سياسية أكثر مما هي قانونية، وهي نوع من الاحتجاج"، ويضيف: "خطوة بوروندي الانسحاب من المحكمة على سبيل المثال جاءت أيضاً احتجاجية على قيام المحكمة بالتحقيق في جرائم حرب ارتُكبت في ذلك البلد، والأمر نفسه ينطبق على جنوب أفريقيا التي قامت بالخطوة احتجاجاً على انتقادات المحكمة الدولية لعدم توقيفها الرئيس السوداني عمر البشير الذي زار البلاد العام الماضي، على الرغم من أنه مطلوب في جرائم وقعت في دارفور". القصة بالنسبة لتلك الدول تعبير عن مصالح خاصة أكثر مما هي مبادئ تتعلق مثلاً "بعدم اعتراف دول كبيرة كالولايات المتحدة بهذه المحكمة"، كما يشير الخبير مورتن غارسيا، في حديث لـ"العربي الجديد". ويعتبر أن "غامبيا لم تنسحب سوى لأنها فشلت في محاولة تقديم الاتحاد الأوروبي إلى المحكمة الجنائية الدولية لتحميلها مسؤولية غرق أفارقة في البحر المتوسط، وبالتالي هو نوع من الاحتجاج المؤقت الذي أتوقع أن تتراجع عنه، لأنه ليس في مصلحة المنسحبين في القارة الأفريقية"، مضيفاً: "هم ينتقدون بطء عمل المحكمة الدولية، وتركيزها على قادة أفارقة وليس أوروبيين، ما يضعهم تحت ضوء سيئ في سمعة وصورة بلادهم".

في السياق، يشير القاضي السابق فريدريك هارهوف، إلى أن "ثلاثة من الذين حوكموا في المحكمة الجنائية، تمت محاكمتهم بناء على طلب دول الاتحاد الأفريقي، لذا لا أرى ما يستدعي هذا الانتقاد والاحتجاج بالانسحاب". وتتفق معه الأستاذة الجامعية في القانون الدولي إيرينا مارشوك قائلة إن "عمل المحكمة خلال 12 سنة كان التركيز في معظم قضاياها خارج القارة الأفريقية". وفي خروج هذه الدول من المحكمة، لا يرى الخبراء أي تأثير في عمل المحكمة الدولية "على الرغم من بطء عملها، إلا أن في القانون الدولي وتطبيق العدالة تُعتبر 12 سنة عملاً جيداً في قضايا كبرى".
وبالنسبة لروسيا، يرى الخبير في مركز الدراسات الدولية "دييس"، المختص بشؤون المنطقة العربية، لارس ايرسلوف اندرسن، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "روسيا حصّنت نفسها ضد أية انتقادات، وللأسف هي ترى بأن تعاونها مع إيران والعراق لتثبيت بشار الأسد في السلطة، بكل ما ترتكبه من قصف وتدمير في حلب وغيرها، لن يحاسبها عليه أحد". ويضيف: "صحيح أنها تتصرف كما تصرفت في الشيشان، حيث كان التدمير والفظائع أوسع، إلا أن انسحابها من المحكمة الجنائية لا يعني الكثير". ويرى أندرسن أن الأمر "مرتبط بما ستكون عليه سياسة ترامب المستقبلية، وهذا ما تجري مناقشته الآن في واشنطن"، معرباً عن أسفه لأن "المعارضة السورية، سواء داخل أو خارج سورية، شبه مغيبة عما يجري أو أخذ رأيها، ونحن في مرحلة انتظار تشكيلة ترامب وسياسته في الشرق الأوسط ومع روسيا".

المساهمون