الانتماءات الصغرى في فلسطين
سمعت من أطفالي الأربعة ما يستحق التأمل، لا سيما وأن أصغرهم بات، الآن، في السنة الأولى الابتدائية، وأكبرهم في السابع المتوسط. التحقوا بمدرسة قرية "أبو قش" للذكور. انسجم الأطفال بسرعة، لأن أذهانهم تخلو من أية أفكار مسبقة، يتوهمها النعراتيون، عن تمايز بين القرية والمدينة، أو بين الضفة الغربية وقطاع غزة، أو بين المخيم وسواه من مُحتشدات الفلسطينيين، أو بين سكان الخارج وإخوتهم سكان الداخل، أو بين 67 و48. فلم يتوقف أبوهم، في أي يوم، أو في أي عمل، عند فوارق كهذه، موهومة بشفاعة ظروف حياة مختلفة، ولم يمضغها، ولم يلفها في "كبسولات" للمتعاطين. لكن صفوف المدرسة وضعت الصغار أمام تمايز الولاء الفصائلي في القرية، وبات أطفالي يحفظون عناوين الحركات والجبهات. أدهشني باسل، أصغر أبنائي، بتصريح فجائي، نبهني إلى حدوث نقلة نوعية في لغته. فقد أبلغني أن الصف الذي يدرس فيه ذو أغلبية حمساوية، بينما الصف السابع الذي يدرس فيه أخوه الأكبر ذو أغلبية موالية للجبهة الشعبية. وأضاف الأخير أن بين الصفين في المدرسة يوجد فتحاويون!
أناشيد الصباح وتحية العلم والسلام الوطني مراسم مقررة في المدرسة الأميرية، يؤديها الصغار جزءاً من الواجب، لكن التلامذة، حين يدخلون إلى صفوفهم، أو ينتشرون في الباحة، يتفرع انتماؤهم العام إلى انتماءات صغرى، تستغرق جل أحاديثهم!
القرى، هنا في الضفة الفلسطينية، تتنوع في الانتماءات الصغرى لشبابها وصغارها. وغالباً ما يكون هذا التنوع انعكاساً عاطفياً لواقعة فَقْد، لشاب عزيز من القرية، استشهد كمقاوم. ولأن الغالبية العظمى من شهداء أحداث الطعن، أو الدهس، أو الاشتباك، في هذه المرحلة، هي من فصائل حماس أو الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية؛ فإن ولاء الريف يتحرك في وُجهة الدم. والريف، كما هو معلوم، يزن بقوة في الرأي العام وفي صناديق الاقتراع!
كان هناك شِقٌّ ثانٍ من تصريح باسل الصغير، هو إعلانه عن نفسه فتحاوياً. لكن هذا الفتحاوي الصغير بات منقوعاً على المستوى الموضوعي بحركة فتح المقاومة والجسورة، بتأثير الوعي الجمعي في المدرسة، ذلك علماً بأن المدرسين يتحاشون الحديث في السياسة، بمعناها الإشكالي، ويركّزون على الوطن وقيمته وثقافته. أما من جانبي، فكنت أشفق على أطفالي الأربعة من أي حديث عن الفصائل، ولم يسبق لي أن فكرت بترغيب واحد منهم في فصيل. وربما لو أن كل أولياء الأمور فعلوا ذلك؛ لما وجد التلامذة أنفسهم، في خضم سجال من هذه الشاكلة. وهنا، يصح الافتراض، أن مساحة معتبرة من الوعي الطفولي في غزة، تتأثر حُكماً بانعكاسات التدمير والموت الكارثي، إذ ينقسم الوعي العام بين من يرون المقاومة جلابة فخار وآخرين يرونها جلابة آلام، فيتأرجح مؤشر الانتماء الفرعي بين مقاومة منتصرة افتراضاً ووطنية مستنكفة عن الفعل المقاوم، توحي باحتمالات إعادة إعمار مفترضة، وبتغطية مالية مفترضة، وطبابة وإغاثة مفترضتين!
كلما انزاح سجال الأطفال إلى وصف العدو؛ تراه يؤسس للشجاعة على قاعدة أن جنود الاحتلال رعديدون. فعندما فتحتُ حديثاً مع ابني الأصغر، سألني لكي يتأكد من معلومة باتت عنده يقيناً: صحيح إن جنودهم، يلفون مؤخراتهم بالــ "بامبرز"؟ أذهلني السؤال، وفهمت أن فكرة استخدام الجندي الحفاضات، في وعي الأطفال، معطوفة على فكرة أنهم يرتعدون خوفاً، على النحو الذي يسهل معه الاستهتار بما يتدججون به من سلاح!
ثمّة ما دعاني إلى التأمل فيما سمعت. فالحاجة إلى الانتماء ظاهرة رصدتها دراسات علم النفس. وللمفارقة، هي ملازمة، في حقل دراستها، شقيقتها ظاهرة الحاجة إلى الإنجاز، حسب ما أفادنا به عالمان نفسيان أميركيان، تأثر أولاهما بالثاني. لقد وضع هنري مواري، في الثلاثينيات، منظومة الحاجات النفسية للبشر، ولخصها في ثلاث حلقات متصلة: الإنجاز، والنفوذ، والانتماء. وجاء بعده ديفيد ماكليلاند، عالم النفس اليهودي الأميركي، فوضع يده في الموضوع، راغباً في دراسة ظاهرة الانتماء وتعزيزها، إسهاماً منه في تخليق سيكولوجيا انتماء صهيوني واحدة، لليهود المنتشرين في العالم، لا سيما في بحثه "إحراز المجتمع". وكان الانتماء للصهيونية، في دعوته، هو الذي يعلو على كل انتماء. وبالعودة إلى ما كتب بالإنجليزية، نجده يقول "من المفترض أن يكون دافع الإنجاز البشري أمراً جيداً، يأخذنا إلى الانتماء. وينبغي أن يساعدنا كلاهما على معرفة ما نريده حقاً، لكي نتجنب مطاردة الأوهام التي ليس لنا فيها أي باع. وأهم شيء هو خلق فرص لتطوير الذات، في حال تطبيق عناصر التحفيز لتحقيق أهدافنا في الحياة"! تلاحظون أن الإنجاز كان عندهم قرين الانتماء الكُلي، والدافع إليه، ولعل المُعادل الموضوعي لهذا الانتماء لدى الأمم، هو الوطنيات العامة. وهذا ما ينبغي أن تتعلمه الفصائل التي ترمي عناوينها في جوف الطفل، وحسب. أما ظاهرة تصغير الانتماء إلى وحدات أصغر، ورفع الانتساب إلى فصيل، إلى سوية الانتماء الأهم، فإنها تفصل حلقة الانتماء عن الإنجاز، وتشتت فكرة إيجاد فرص لتطوير الذات الكُلية.
في الوطنيات، هناك في علم النفس، ما يُسمى عامل الضغطـ الذي يعزز الانتماء، ويدفع إليه بمعناه الأشمل. فالخطر يجعل الناس تحس بالحاجة إلى الاقتراب من بعضها بعضاً. أما في الأطر السياسية المترهلة، غير ذات النفوذ والإنجاز، فنجد الانتماء كيدياً لا سياقَ خلاقٌ له، بحكم أن مثل هذه الأطر تنام وتقوم، وتتغذى على الفوارق الموهومة بين الناس، فصائل أو مناطق أو سمات حياة. والمشتغلون في تصغير الانتماءات، أو في تعلية الانتماءات الفرعية، لا تقتصر ثرثراتهم على الآخرين، داخل أطرهم وحسب، وإنما تشمل كل شيء، في خارج أطرهم، وفي داخل المجتمع!
أطفال يكبرون على شجاعةٍ، تنمو مع الزمن، وفصائل يرسم الزمن على وجوهها تجاعيد الشيخوخة، أن للأطفال، عندما يكبرون، خيارات أخرى، ترميماً للقديم، أو تخليقاً لجديد!