18 نوفمبر 2024
الانتفاضة اللبنانية والدولتان الطائفية والخفية
الانتفاضة اللبنانية العابرة للطوائف مفاجأة للنخبة السياسية اللبنانية قبل غيرها، هذه النخبة التي أعادت تأسيس النظام الطائفي اللبناني الجديد عبر اتفاق الطائف في العام 1989، والذي أسس لنزع السلاح من المتقاتلين، وإطلاق عفو عام عن جرائم الحرب الأهلية، وإعادة توحيد المناطق اللبنانية في 1991. يمكن القول، أمراء (اقرأ مجرمو) الحرب الأهلية هم أنفسهم من أسّس النظام السياسي اللبناني الحالي في 1991. أي جرى نزع السلاح من القوى المتقاتلة، قل نزع المظاهر المسلحة أو إخفاؤها من الحرب الأهلية، وحزب الله هو الطرف الوحيد الذي رفض نزع سلاحه، بل زاد من قوته العسكرية، بحجة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، إلا أنه بقي محتفظاً بهذا السلاح، حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية في العام 2000، وتم توظيف هذا السلاح بتدخل حزب الله في الصراع في سورية لدعم النظام السوري في مواجهة الاحتجاجات الشعبية التي طالبت بالحرية.
عملياً تم الخروج من الحرب الأهلية في لبنان بالاستعانة بمواد الحرب الأهلية ذاتها لبناء دولة طائفية، كاستمرار للحرب الأهلية بوسائل أخرى. ومليشيات القوى السياسية التي سرقت البلد في أثناء الحرب الأهلية، أخلت الساحة لممثليها السياسيين لسرقة كل لبنان. ولكن هذا النهب لم يكن موقعياً للمناطق التي تقع تحت سيطرة المقاتلين، كما كان الحال في الحرب الأهلية، بل هو نهب شامل لكل موارد الدولة اللبنانية وديونها. أي أن النخبة المتربعة في كراسي السلطة، بصرف النظر عن انتمائها الطائفي، قد سطت على أموال الدولة التي تخص كل الطوائف اللبنانية، بمعنى السياسي الطائفي قام عملياً بسرقة طائفته بسرقته للدولة اللبنانية، ولم يسرق طائفةً أخرى أو مناطق طائفة أخرى كما جرى عدة مرات في الحرب الأهلية. في هذه المعادلة، باتت كل قواعد الطوائف الفقيرة والمفقرة منهوبة من كل أسياد الطوائف، ولم يعد من الممكن العيش مع هذا الوضع، فقال الشعب اللبناني لا المدوية.
بعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب الأهلية، وجد المواطن اللبناني نفسه، في دولة ذات مديونية عالية جداً، منهوبة من النخبة السياسية الحاكمة بشكل فج، غير قادرة على تأمين الكهرباء
لمواطنيها، وغير قادرة على جمع القمامة من شوارعها، وغير قادرة على إطفاء حريقٍ يشب في غاباتها... إلخ. هذه الشمولية في الفساد جعلت الانتفاضة عليها بشموليتها، فلم تكن هناك طائفة خارج هذه الانتفاضة، ولم ترفع أي شعارات أو رايات حزبية، غير علم لبنان. لأن هذه الانتفاضة جاءت من خارج الطيف السياسي اللبناني المنغمس في المعادلة الطائفية، والذي يصارع على حصته الحزبية من الفساد الذي يخترق الدولة اللبنانية، والتي حصل عليها شريحة محدودة من هذه القوى السياسية.
تملك الانتفاضة اللبنانية كل المشروعية السياسية والتاريخية للاحتجاج على نظام فاسد منذ تأسيسه في 1943 على المعادلة الطائفية، ولكن هذه المعادلة، المعيبة أصلاً، تم إعادة تأسيسها بعد الحرب الأهلية، على مستويين: الشكل، استعادة النظام الطائفي مع تعديلات طفيفة، مع أن التغيرات الديمغرافية منذ تأسيس النظام السياسي حتى إعادة تأسيسه بعد الحرب الأهلية، قد تغيّرت كثيراً، ولكن استعادة الصيغة الطائفية لم تجلب علاقات القوة نفسها التي كانت سائدة قبل الحرب الأهلية، بل اِنبنت على وقائع جديدة. على مستوى المضمون، تشكلت علاقات قوة داخل النظام السياسي، لا يحكمها وزن الطوائف وتمثيلها السياسي وحصة الطوائف من المناصب السياسية والإدارية، بل معادلة امتلاك القوة المسلحة. وقد جاءت هذه المعادلة مع تغيّر معادلة السلاح، واحتفاظ حزب الله بقوة عسكرية ضخمة وترسانة صاروخية كبيرة، حتى أصبحت قوة حزب الله تتفوّق على الجيش اللبناني نفسه.
يشكل حزب الله دولة داخل الدولة اللبنانية، لها مواردها وموازنتها وجيشها وحتى شبكة الهاتف الخاصة بها. هذه الدولة الخفية هي التي تحكم الدولة الشرعية في لبنان، ولم يكن لميشيل عون أن يصبح رئيساً من دون موافقة حزب الله ودعمه. منحت القوة العسكرية الكبيرة حزب الله حق النقض (الفيتو) على السياسة الداخلية في لبنان، ولا يمكن أن يمر شيء في لبنان ضد إرادته. وكان استعراض القوة الشهير في 7 مايو/ أيار 2008، رفضا لقراري حكومة فؤاد السنيورة الشبكة الهاتفية الخاصة بحزب الله اعتداءً على سيادة الدولة، وإقالة رئيس جهاز أمن المطار المقرّب من حزب الله. على أثرها، احتل حزب الله بيروت، ولم ينسحب منها، إلا بعد تراجع الحكومة عن قراراتها. وفي خطابه قبل أيام، هدّد الأمين العام للحزب، حسن نصرالله، المتظاهرين بالنزول إلى الشارع، ولكن هذه المرة لن يخرج منه كما قال.
التحدي الأكبر أمام الانتفاضة اللبنانية هو التأثير على الحاكم الفعلي غير المعلن في لبنان، أما
المؤسسات الرسمية على عيوبها وفسادها من الممكن التأثير عليها، لأنها هي المؤسسات القائمة في مواجهة المنتفضين على مستوى العلاقة الرسمية بين المواطن اللبناني ومؤسسات الدولة الفاسدة التي عليها أن تقدّم أجوبة، في النهاية، على أسئلة المواطن اللبناني. ولكنها فعلياً لا تملك قراراتها، فهي محكومةٌ بمعادلة الأقوى الذي يفرض شروطه من دون أن يكون في المواجهة، فمن يواجه المتظاهرين اليوم قوات الجيش والأمن، وليس مليشيات حزب الله، والمطلوب من الحكومة الإجابة على احتجاجات المواطنين. صحيحٌ أن النخبة السياسية اللبنانية لم تأخذ موقفاً موحداً مما يجري، ولكن المتظاهرين في الشارع رفعوا شعار "كلن يعني كلن"، أي لا أحد خارج المحاسبة من النخبة الفاسدة كلها، من وجهة نظر المنتفضين.
شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" هو شعار مناسب للبنان، فنظامه السياسي الطائفي رديء لا يصلح لحل أزمات لبنان المستعصية. المشكلة أن النظام السياسي في لبنان خاص، لا يشبه ما في مصر أو تونس. من حق الشعب اللبناني إطاحة النظامين السياسيين في لبنان، الطائفي العلني والشرعي، والآخر المليشياوي الخفي. إنّه هدف مشروع، لكن السؤال يبقى كيف يمكن تحقيق هذه المهمة الجسيمة، إنه سؤال الشعب اللبناني الموحد بالقهر والفقر، هل يجيب عليه إجابة إبداعية؟ كل شيء ممكن، ما يبدو في غاية القوة ظاهرياً قد يكون في غاية الهشاشة علمياً، والعكس صحيح.
بعد ثلاثة عقود من انتهاء الحرب الأهلية، وجد المواطن اللبناني نفسه، في دولة ذات مديونية عالية جداً، منهوبة من النخبة السياسية الحاكمة بشكل فج، غير قادرة على تأمين الكهرباء
تملك الانتفاضة اللبنانية كل المشروعية السياسية والتاريخية للاحتجاج على نظام فاسد منذ تأسيسه في 1943 على المعادلة الطائفية، ولكن هذه المعادلة، المعيبة أصلاً، تم إعادة تأسيسها بعد الحرب الأهلية، على مستويين: الشكل، استعادة النظام الطائفي مع تعديلات طفيفة، مع أن التغيرات الديمغرافية منذ تأسيس النظام السياسي حتى إعادة تأسيسه بعد الحرب الأهلية، قد تغيّرت كثيراً، ولكن استعادة الصيغة الطائفية لم تجلب علاقات القوة نفسها التي كانت سائدة قبل الحرب الأهلية، بل اِنبنت على وقائع جديدة. على مستوى المضمون، تشكلت علاقات قوة داخل النظام السياسي، لا يحكمها وزن الطوائف وتمثيلها السياسي وحصة الطوائف من المناصب السياسية والإدارية، بل معادلة امتلاك القوة المسلحة. وقد جاءت هذه المعادلة مع تغيّر معادلة السلاح، واحتفاظ حزب الله بقوة عسكرية ضخمة وترسانة صاروخية كبيرة، حتى أصبحت قوة حزب الله تتفوّق على الجيش اللبناني نفسه.
يشكل حزب الله دولة داخل الدولة اللبنانية، لها مواردها وموازنتها وجيشها وحتى شبكة الهاتف الخاصة بها. هذه الدولة الخفية هي التي تحكم الدولة الشرعية في لبنان، ولم يكن لميشيل عون أن يصبح رئيساً من دون موافقة حزب الله ودعمه. منحت القوة العسكرية الكبيرة حزب الله حق النقض (الفيتو) على السياسة الداخلية في لبنان، ولا يمكن أن يمر شيء في لبنان ضد إرادته. وكان استعراض القوة الشهير في 7 مايو/ أيار 2008، رفضا لقراري حكومة فؤاد السنيورة الشبكة الهاتفية الخاصة بحزب الله اعتداءً على سيادة الدولة، وإقالة رئيس جهاز أمن المطار المقرّب من حزب الله. على أثرها، احتل حزب الله بيروت، ولم ينسحب منها، إلا بعد تراجع الحكومة عن قراراتها. وفي خطابه قبل أيام، هدّد الأمين العام للحزب، حسن نصرالله، المتظاهرين بالنزول إلى الشارع، ولكن هذه المرة لن يخرج منه كما قال.
التحدي الأكبر أمام الانتفاضة اللبنانية هو التأثير على الحاكم الفعلي غير المعلن في لبنان، أما
شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" هو شعار مناسب للبنان، فنظامه السياسي الطائفي رديء لا يصلح لحل أزمات لبنان المستعصية. المشكلة أن النظام السياسي في لبنان خاص، لا يشبه ما في مصر أو تونس. من حق الشعب اللبناني إطاحة النظامين السياسيين في لبنان، الطائفي العلني والشرعي، والآخر المليشياوي الخفي. إنّه هدف مشروع، لكن السؤال يبقى كيف يمكن تحقيق هذه المهمة الجسيمة، إنه سؤال الشعب اللبناني الموحد بالقهر والفقر، هل يجيب عليه إجابة إبداعية؟ كل شيء ممكن، ما يبدو في غاية القوة ظاهرياً قد يكون في غاية الهشاشة علمياً، والعكس صحيح.