على طريق الساحل التي تربط صيدا بالزهراني وصولاً إلى صور، وشرقاً باتجاه النبطية ومرجعيون، يتنافس شعاران: عيد التحرير والانتصار على الجيش الإسرائيلي (يوم 25 مايو/أيار 2000)، ولافتات الوفاء والتحية والتقدير والتمجيد لـ"القائد العسكري الكبير" في حزب الله، مصطفى بدر الدين، الذي قضى قبل أسبوع في سورية. بالإضافة إلى رايات حسينية بألوان مختلفة تقطع الشك باليقين لأي زائر لا يريد استيعاب الطابع المذهبي للجنوب. وباتت الحرب التي يديرها حزب الله في سورية دفاعاً عن النظام مادة رئيسية يعتمد عليها مسؤولو الحزب عند أي مناسبة أو استحقاق سياسي.
توحي هذه الأجواء السياسية والإعلانية كأن لا انتخابات بلدية ستجري في الجنوب، غداً الأحد، وهو ما يحاول ثنائي "الحزب والحركة" تثبيته من خلال محاولة فرض السيطرة المطلقة على المجالس البلدية والمخاتير. يخوض حزب الله وحركة أمل الانتخابات البلدية باتفاق وتحالف تام بينهما، تحت اسم "لائحة التنمية والوفاء"، التي ليست إلا دمجا لاسمَي كتلتيهما النيابية (التنمية والتحرير التي يرأسها بري، والوفاء للمقاومة التي يرأسها النائب محمد رعد). ولا يتردّد مسؤولون في التنظيمين في التغنّي بـ"المحدلة الانتخابية التي عمادها المقاومة والإنماء والتنمية وثقة الناس".
وتشير أجواء الماكينة الانتخابية لحركة أمل في الجنوب لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "العمل جارٍ لتشجيع الجنوبيين على المشاركة في الانتخابات بهدف رفع نسبة الاقتراع". ويضيف أحد مديري هذه الماكينة الانتخابية أنّ المعارك قد تكون محسومة لصالح "لائحة التنمية والوفاء"، إلا أنّ المطلوب تحقيق رقم معيّن أكان في الفارق مع منافسين أو في الأعداد المشاركة.
ينقسم جنوب لبنان بين محافظتَي النبطية (أقضية النبطية، حاصبيا، مرجعيون وبنت جبيل) ولبنان الجنوبي (أقضية صيدا، صور، وجزين)، بما فيهما من تنوّع مفترض على المستوى الطائفي والمذهبي. فباستثناء قضاءي جزين (ذي الأغلبية المسيحية)، وحاصبيا (حيث التنوّع السني ـ الدرزي)، تكاد تكون التنويعات الطائفية في كل منطقة الجنوب أشبه بجزر في بحر شعبي، واجتماعي، وسياسي محكوم من ثنائية حزب الله وحركة أمل.
تنطلق الانتخابات البلدية في الجنوب لتشمل 263 مجلساً بلدياً (فاز قرابة الخمسين منها بالتزكية)، ينخبهم قرابة 670 ألف مواطن. مع العلم أنّ نسبة الاقتراع الوسطية في الانتخابات البلدية في المحافظتين قد تتخطّى الخمسين في المائة، استناداً إلى التقارير الصادرة عن الانتخابات المحلية التي تمّت عامي 2004 و2010.
لكن لن يمرّ مسعى ثنائي حزب الله وحركة أمل بالسيطرة المطلقة على المجالس المحلية في الجنوب بسهولة؛ فقد قرّرت جهات سياسية وحزبية ومدنية ومستقلّة خوض المعارك الانتخابية بوجه السيطرة المفروضة على الجنوب وبلداتها. كان رد "الحزب والحركة" جاهزاً ومعلّباً في كثير من الحالات، مثل اتهام المنافسين بـ"العمالة" حيناً، أو الوقوف بوجه "المقاومة" حيناً آخر. مع العلم أنّ اتهاماً جديداً طرأ على لوائح التخوين في الجنوب في هذا الاستحقاق وهو "دعم التكفيريين" من سورية إلى لبنان.
أمام هذه التطورات، يضطر منافسو "الحزب والحركة"، تلقائياً، إلى خوض النقاش الانتخابي من زاوية الدفاع عن انتماءاتهم الوطنية والفكرية أولاً، وكأن الولاء للوطن بات بحاجة إلى خَتم من جهة معيّنة. حتى أنّ هذه الاتهامات توجّه في المجمل إلى أطراف كانت معنيّة بقتال العدو الإسرائيلي، وتحديداً الحزب الشيوعي اللبناني الذي أطلق "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" عام 1982 قبل أن يتم تأسيس حزب الله أو حتى بدء مشروع جدي للنظام الإيراني في لبنان.
67 معركة للشيوعيين
يخوض الحزب الشيوعي معارك الانتخابات البلدية في 67 مدينة وبلدة في جنوب لبنان، بحسب ما يؤكد مسؤول منطقة الجنوب في الحزب علي الحاج علي. ويشير الحاج علي لـ"العربي الجديد" إلى أنّ المشاركة في الانتخابات البلدية "ليست معارك بل أقلّ الحقوق والواجبات، وهو الدور الطبيعي الذي على الحزب الشيوعي أن يقوم به". الحاج علي، مرشح سابق للانتخابات النيابية في الجنوب، يؤكد على أنّ الشعارات التي يرفعها حزب الله وحركة أمل في ما يخص المقاومة "مزايدات لن نسمح لأحد بفرضها علينا ولو أننا نحترم ونقدّر تضحيات كل من قاوم إسرائيل".
ومن خلال عبارة "الحزب الشيوعي هو حزب الألف ومئة شهيد"، ينطلق الحاج علي للمطالبة بإبعاد الاستحقاق البلدي عن السياسة، ولو أنّ استحقاقاً مماثلاً شأن سياسي بامتياز. قد يكون الحزب الشيوعي القوّة السياسية والحزبية الأكثر تضرراً من تصاعد نفوذ حزب الله وحركة أمل منذ الحرب الأهلية وصولاً إلى الوقت الراهن. فبعدما كان الشيوعيون يمثلّون جزءاً كبيراً من أهالي الجنوب، تحوّل الهجوم العكسي عليهم من أبواب الاتهامات الأخلاقية التي يطلقها رجال الدين، بما في ذلك من "الردّة" إلى الطوائف والطائفية التي تقودها القوى المسيطرة على الساحة منذ الحرب.
ولعلّ أبرز المعارك التي قرّر الشيوعيون خوضها هي في بلدات حولا، وكْفَرمان، والطيبة، وبنت جبيل، والبازورية، وأنصار، وزوطر، والبابلية وغيرها. حتى أنّ الأرقام تبدو متقاربة في بعض هذه البلدات في مواجهة محدلة "التنمية والوفاء". في حين لجأ الشيوعيون في أكثر من مكان إلى التحالف مع العائلات والشخصيات المستقلة، على الرغم من ضغوط كثيفة يتم ممارستها على منافسي أمل وحزب الله.
ضغوط وتهديدات
في هذا الإطار، يؤكد الحاج علي لـ"العربي الجديد" أنّ "ممارسة الضغوط على المرشحين بوجه لوائح حزب الله وحركة أمل لم تعد أمراً خفياً على أحد"، مشيراً إلى أنّ "الضغوط لم تأت فقط من نواب ووزراء في الفريقين بل من أجهزة أمنية أيضاً". وفي بعض الحالات التي تمّ توثيقها في الجنوب، فإنّ عدداً من المرشحين "تمّ تهديدهم بطردهم من وظائفهم، أو تمّ تهديد بعض المرشحين بطرد أقارب لهم من مؤسسات رسمية وأخرى خاصة في خروقات واضحة للقوانين"، بحسب ما يقول أحد هؤلاء لـ"العربي الجديد".
وما هذا المنطق التهديدي سوى استكمال للغة التخوين والاتهامات بـ"العمالة" أو دعم "التكفيريين في سورية". كما أنّ دخول الأجهزة الأمنية على خطّ الانتخابات ليس جديداً في لبنان، على اعتبار أنّ استحقاقات انتخابية كانت تدار من قبل هذه الأجهزة خلال حقبة الاحتلال السوري للبنان والوصاية عليه. وما الحاصل اليوم سوى تأكيد على أنّ ترسّبات هذه الوصاية لا تزال حاضرة، وثمة من يصر على استمرار فرضها على اللبنانيين.
من جهة أخرى، يؤكد المرشّح المستقل في مدينة النبطية علي نقر أنّ أي اتصال لم يرده لثنيه عن الترشح، "ولو أنّ 9 مرشّحين عادوا وتراجعوا عن خيار خوض الاستحقاق في المدينة نفسها قبل ساعات من انطلاق موعد الانتخابات". كما أنّ قسماً من هؤلاء تراجعوا بفعل بعد الاتصالات التي وردتهم، بما فيها من منطق "ترغيب وتهديد"، مع العلم أنّ عدد المرشحين المستقلين قد يكون موازياً لعدد المرشحين الرسميين للأحزاب، وفقاً للمرشح المستقل.
المجتمع المدني في الجنوب
لن يختلف الجنوب عن باقي المحافظات الأخرى من حيث انطلاق نشاط المجتمع المدني وحركته في المعارك البلدية. بعد نجاح تجارب "بيروت مدينتي"، و"بعلبك مدينتي"، وغيرها من اللوائح الانتخابية التي نجحت في كسر هواجس الأرقام من بيروت إلى بعلبك، والهرمل، وجبل لبنان، خرجت إلى الواجهة في الجنوب مجموعة من اللوائح الانتخابية التي تحمل عنوان المجتمع المدني. وأبرز هذه اللوائح: "النبطية مدينتي"، و"حولا الناس"، و"كفرمان الغد"، و"حاصبيا للكل"، و"الطيبة تجمعنا"، و"الغازية بلدتي"، و"معركة بلدتي"، و"الزرارية بتستاهل"، وغيرها.
تكمن أهمية هذه اللوائح في كونها تحاول خرق جدار الأحزاب والسياسة في مناطق دقيقة. فمثلاً، لمدينة النبطية رمزية خاصة لكونها معقلاً رئيسياً لحركة أمل وحزب الله، وفيها تقام مسيرة عاشوراء كل عام، كما أن حولها يتوزّع ثقل التمثيل السياسي لحركة أمل. من هذه البيئة تخرج مجموعة من الناشطين للترشّح من دون أي تنسيق مسبق أو معدّ سلفاً، وتبقي على ترشيحاتها بلا أي تحالفات، وتجمعها فقط صفحة "النبطية مدينتي" على مواقع التواصل الاجتماعي "كصفحة تعبّر عن المستقلين فقط"، بحسب ما يقول نقر. ويشير الأخير إلى أنّ "الترشح اليوم للانتخابات ليس ربما بهدف الربح، بل للإشارة إلى وجود من يبحث عن تمثيل وشراكة وتعبير بهدف التطوير والتغيير، وإلى وجود صوت على القوى السياسية الاستماع إليه".
كما يبدو لافتاً، أنه في البازورية (قضاء صور)، وهي بلدة الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، تخوض لائحة تجمع عدداً من الشخصيات المستقلة والديمقراطية المعركة في وجه لائحة أمل وحزب الله. وتسعى اللائحة لتجاوز "خطأ عدم خوض الانتخابات عام 2010"، كما يقول رئيس اللائحة المنافسة في البلدة، إبراهيم فرج. ويشير إلى أنّ اللائحة تعتمد على كفاءات أعضائها وعلاقاتهم الجيدة مع الناس. ولم تسع اللائحة لإعطاء المعركة بُعداً سياسياً، بل ركّزت على البعد الاجتماعي والثقافي والتنموي على الرغم من أن أعضاءها يعتبرون جزءًا من التيار الديمقراطي في البلد، بحسب فرج.
في حين تخوض بلدة معركة (قضاء صور) انتخاباتها بلائحة غير مكتملة وعدد من المرشحين المستقلين في وجه لائحة الثنائي (حزب الله وأمل)، وتعتمد هذه اللائحة بشكلٍ رئيسي على اعتراض الناس على تجربة المجالس البلدية المتلاحقة منذ 18 عاماً، والتي فشلت في القيام بعمل تنموي، وفاحت منها روائح الفساد.
ويشير أحد المرشحين على لائحة الحزب الشيوعي في صريفا (قضاء صور)، علي حاوي إلى أنّ تأثر الوضع السياسي في القضاء بالحراك المدني لا يزال ضعيفاً. ويتحدث رئيس منتدى صور الثقافي السابق منيف فرج عن غياب الحاضنة الاجتماعية التي تستطيع بلورة مشروع سياسي وثقافي واجتماعي مختلف. تبدو الصورة قاتمة، عند الاستماع لفرج، وهو الذي يملك تاريخاً طويلاً في العمل السياسي والثقافي في صور. يقول إن هناك فراغاً كبيراً، وإنه لا توجد حركة اجتماعية قادرة على ملئه حالياً، وإخراج الناس من حالة الاعتراض السلبية إلى حالة الفعل والمواجهة.
في قضاء حاصبيا، خرج كبير مشايخ خلوات البياضة (للمشايخ الدروز)، غالب قيس، للتأكيد على رفض المشايخ مشاركة المرأة في الانتخابات البلدية، وهو ما أثّر سلباً على ترشح النساء إلى المجالس البلدية في المنطقة. وعلى الرغم من هذا الموقف، ومن قلق الأحزاب السياسية من دعم أي منهنّ خوفاً من ردة فعل رجال الدين، اجتماعياً وانتخابياً، استمرت أربع نساء بالترشّح. لكن في الجانب الآخر من حاصبيا، تقع معارك سياسية قاسية، تحديداً في قرى الهبارية، وكفرشوبا، وكفرحمام، إذ يتنافس كل من الحزب الشيوعي من جهة والجماعة الإسلامية وتيار المستقبل من جهة أخرى.
أما في جزين، ذي الأغلبية المسيحية، فإنّ معركة الانتخاب تتمّ على جبهتَين في آن معاً، إذ تنظّم الانتخابات البلدية ومعها الانتخابات النيابية الفرعية لملء شغور النائب المتوفى ميشال الحلو. ومن المفترض أن يشكّل الاستحقاقَان مناسبة جديدة لقياس مدى التحالف والتفاهم القائم بين الزعيمين المسيحيين، ميشال عون وسمير جعجع، اللذين قرّرا خوض الانتخابات معاً في بلديات جزين. كما انضم إليهم حزب الكتائب في المعركة النيابية. وبالتالي فإنّ الثلاثي المسيحي سيكون داعماً لمرشح عون، أمل أبو زيد، الذي سيواجه بشكل رئيسي مرشّح بري في جزين، إبراهيم عازار نجل النائب السابق سمير عازار الذي كان عضو كتلة التنمية والتحرير.
أما بلدياً، فقد اختار حزب الكتائب ترك الخيار لأنصاره متفادياً بذلك خوض معركة خاسرة بوجه العائلات، وهو الأمر الذي قد يحرج كلاً من التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية، ويضعهما أمام مواجهة مباشرة مع العائلات. وهو الواقع الذي هربت منه الأحزاب المسيحية تحديداً في بلدات مرجعيون، إذ تمّ تشكيل لوائح توافقية في معظم البلدات ذات الأغلبية المسيحية. وبقيت بلدات القليعة ودير ميماس خاضعة لتجاذب حزبي وتمكّنت من تقسيم الأحزاب وأنصارها بين اللوائح المتنافسة.