الانتحار احتجاجاً في تونس

21 نوفمبر 2016
+ الخط -
لا يكاد يمرّ يوم أو يومان، من دون السماع عن حالة أو محاولة انتحار في تونس. ولا يقتصر الأمر على البالغين، بل الأكثر وحشية في "الظاهرة" هو ما يسجل من محاولات وحالات الانتحار المسجلة في صفوف الأطفال والشباب، إذ أشار المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى تسجيل 100 حالة خلال شهري سبتمبر/ نيسان وأكتوبر/ تشرين الأول لسنة 2016، ما يعني ارتفاعاً بنسبة النصف، حيث تمّ تسجيل 50 حالة خلال شهر أغسطس/ آب، منها 23 حالة محاولات جماعية، على إثر انخراط هذه المجموعات في إضرابات جوع واحتجاجات، طالت مختلف المحافظات (الجهات) التونسية تطالب بالتشغيل أو تسوية الوضعيات غير القانونية للعاملين ضمن برامج التشغيل التي وفرتها الدولة.
في وقت سابق، ذكرت الدكتورة فاطمة الشرفي، والتي تترأس لجنة مكافحة الانتحار التي شكلتها وزارة الصحة التونسية، أنّ اللجنة سجلت 365 حالة انتحار في سنة 2015، أي بنسبة 3.7 حالة لكل ألف نسمة ساكن، وأنّ نصف حالات بين فئة الشباب، أي بين 30 أو 39 سنة.
وعلى الرغم من أنّ تصريحات اللجنة تؤكد أنّ النسبة الأكثر في حالات الانتحار تمس فئة الشباب، إلا أنّه لا يمكن حصر الانتحار في فئة عمرية معينة، فلقد طالت محاولات الإنتحار أو الانتحار كلّ الشرائح والجنسين أيضاً، على الرغم من تسجيل تراجع بنسبة الإناث اللواتي أقدمن على الانتحار أو محاولة الانتحار، كما أنّ الظاهرة لم تتميّز بجغرافية معينة، بل شملت كلّ الجهات من الشمال للجنوب والشرق للغرب.
ما يميز الانتحار في تونس هو ظاهرة الانتحار حرقاً، والتي تمثل الصورة المثلى لانتحار محمد بوعزيزي، احتجاجاً على مصادرة عربته من البلدية، وهي ليست سابقة "تونسية"، فقد شهد العالم كثيراً منها عبر تاريخه الطويل، ففي الستينيات من القرن العشرين، أحرق الرهبان البوذيون، وأبرزهم تتش كوان دك، في جنوب فيتنام، أنفسهم احتجاجاً على الرئيس نغو دينه ديم، وهو ما أكسبهم احترام الغرب، كما تمّ تسجيل أحداث مشابهة في أوروبا الشرقية، حيث فعل جان بلاكس عقب اجتياح حلف وارسو لتشيكوسلوفاكيا، كما أحرق طالب الجيولوجيا كوستاس جيورجاكيس في سنة 1970 نفسه موتًا في جنوة في إيطاليا، احتجاجًا على المجلس العسكري اليوناني.
هل يمكن أن نعتبر الانتحار في تونس من أنواع الاحتجاج الذي يمارس اليوم بشكل واسع ووحشي؟ قد تبدو الإجابة عسيرة في الوقت الحالي في غياب دراسة دقيقة وجدية وواسعة وعاجلة، تحاول فهم الظاهرة في مختلف جوانبها، وتحديد الأسباب في محاولة لإدراك ما يمكن إدراكه. لكن، في المقابل، ثمّة مؤشرات قد توضح الصورة ولو قليلا: يعيش التونسي اليوم تضارباً واضحاً وكبيراً بين ما كان يتأمله من الثورة وواقعه الحالي، المشكلات الاجتماعية في ارتفاع مستمر، وهو لا يرى أي باب فُتح لمحاولة الإصلاح، ولعل الملف الأكثر إحراجاً هو التشغيل، والذي كان العنوان الأبرز للثورة التونسية (شغل، حرية، كرامة وطنية).
استمرار ارتفاع نسب البطالة، وخصوصاً في المناطق الداخلية مع تواصل التهميش التنموي لهذه المناطق يقابله ارتفاع رهيب لأسعار المواد الغذائية و الكهرباء والماء، ما يعني اتساع قاعدة الفقر في مقابل انحسار الثراء لفائدة فئات معينة، والحقيقة أنّ اتساع مائدة الفقر كانت من الأسباب التي فتحت الباب لمشكلات أخرى، كالإرهاب والهجرة السرية والتهريب وغيرها من المشاكل التي وجد فيها الشباب منفذاً للهروب من واقعه.
إذا حاولنا قراءة هذه المعطيات الاجتماعية المرتبطة أساساً بالمعطى الاقتصادي، إضافة إلى ضبابية المشهد السياسي واتسامه بعدم الاستقرار أو القدرة على مواجهة مشكلات البلاد، إضافة إلى عدم قدرة المثقفين التونسيين على أن يكونوا مركز الفعل الثوري، أو منطلق التغيير، بسبب إما انخراط بعض منهم ضمن الدائرة السياسية، أو اختفاء آخرين بسبب التجاهل الذي يُمارس ضد بعض الأسماء، وخصوصا الأصوات الشبابية التي تميّز خطابها الثقافي ببعده الثوري، إضافة إلى خطاب إعلامي اختار تسويق نفسه على حساب مشكلات التونسي، مع بروز مشكلات تتعلّق بقطاع الصحة، حيث تعاني لليوم بعض المناطق من قلة وجود الطواقم الطبية المختصة، إضافة إلى المشكلات في قطاع التربية والتعليم، والذي يتعلّق بأجيال كاملة.
كل هذا يجعل من التونسي في مواجهة غير متكافئة بين واقعه المتدحرج أكثر وأكثر نحو الهاوية وأحلامه التي استيقظت بعد الثورة.
avata
avata
مبروكة علي (تونس)
مبروكة علي (تونس)