حدثان اثنان يُعلَن عنهما أخيراً، يُمكن الاستناد إليهما في قراءة مشهد عربي متعلّق بواقع الإنتاج السينمائي العربي: الأوّل إعلان هيئة المنطقة الإعلامية في أبوظبي، إيقاف "مهرجان أبوظبي السينمائي"، والانتقال إلى مرحلة جديدة "تستهدف تقديم مزيد من الدعم لصنّاع السينما المحليين (أي الإماراتيين) والعرب، واستقطاب مزيد من الأفلام السينمائية والأعمال التلفزيونية لإنتاجها في أبوظبي". والثاني كامنٌ في تأسيس شراكة إنتاجية جديدة بين "فيلم كلينك" المصرية و"فورتريس كابيتال إنفيستايمنت" الإماراتية (دبي)، باسم "فورتريس فيلم كلينك"، تسعى إلى "تطوير أفلام سينمائية وعروض تلفزيونية، وإلى إنتاجها وتوزيعها".
حدثان مهمّان على مستوى الإنتاج السينمائي. لن تكون النتائج واضحة منذ الآن. الربط بين إنتاج سينمائي واشتغالات تلفزيونية في العالم العربي يثير قلقاً وريبةً، ويطرح أسئلة تُختزل بواحد: إلى أي مدى ستؤثّر عقلية الإنتاج التلفزيوني (بما هو عليه في العالم العربي حالياً من رداءة وارتباكات وخلل، أقلّه في معظم الأعمال المُنتجة في الأعوام القليلة الماضية، كما في منطق الإنتاج والاشتغالات) على أولوية الإبداع البصريّ في النتاج السينمائي. التداخل السينمائي ـ التلفزيوني في السلوك الإنتاجي العربي يؤدّي، غالباً، إلى فوضى العلاقة بين صناعتين مختلفتين تماماً. تجارب عديدة تؤكّد أن عقلية التلفزيون طاغية على أعمال يُراد لها أن تكون سينمائية.
المعادلة، إذاً، خطرة. دمج الجانبين في سلوك إنتاجي واحد "قد" يؤدّي إلى تأثيرات سلبية على السينما. السيناريست والمنتج المصري محمد حفظي (فيلم كلينك)، لديه خبرة في النتاج السينمائي الصرف. فهل يُحصّن السينمائيُّ فيه نفسَه من حاجات المنتج؟ الإنتاج محتاج إلى أموال، وكذلك السينما. أين سيُقام الحدّ الفاصل بين سطوة المال والإبداع الفني ـ الثقافي ـ الجمالي للسينما؟
اقرأ أيضاً: أفلام الثورات العربيّة: أشكال سينمائيّة تحمّست لتوثيق الآني
أفق إنتاجي مختلف
يُقال إن طرح أسئلة كهذه "سابق" لأوانه. ربما. تُطرح الأسئلة لإثارة نقاش يواكب مرحلة التحضير لإطلاق مرحلة جديدة من العمل الإنتاجي العربي. "هيئة المنطقة الإعلامية ـ أبوظبي" تريد تفرّغاً شبه كامل للإنتاج، واستقطاب مشاريع إماراتية وعربية للمساهمة في تمويلها وتنفيذها، وفتح مجال أوسع أمام أعمال أجنبية لتصويرها في أبوظبي. هذا حسنٌ. تصوير أعمال أجنبية يُدرّ أموالاً، يُفترض بها أن تُشكّل جزءًا من ميزانية إنتاج الأفلام المحلية والعربية. هناك تمنٍّ أن يكون التفرّغ مساهمة فعلية في صناعة سينما إماراتية وعربية مختلفة. تقول الهيئة إن خطوة إيقاف المهرجان والانتقال إلى الإنتاج "تُعدّ بمثابة المرحلة التالية في استكمال صناعة السينما في العاصمة الإماراتية"، وتؤكّد مواصلة جهودها في دعم صنّاع الأفلام الإماراتيين والعرب من خلال "صندوق سند"، الذي يوفّر دعماً لمشاريع سينمائية في مرحلة تطوير السيناريو، كما في المراحل النهائية للإنتاج، "بشكل يُمكّنهم من تطوير أفلامهم الروائية والوثائقية الطويلة، أو استكمالها".
"فورتريس فيلم كلينك" تريد العمل مع جهات إنتاجية لإنتاج أفلام سينمائية وعروض تلفزيونية وتوزيعها عربياً ودولياً. محمد حفظي يقول إن فائدة الشراكة هذه "لا تتمثّل في المساهمة من الناحية التمويلية والتطوير المتواصل فقط، لأن العمل سيكون مع أشخاص يحبّون السينما، ولديهم أهدافنا نفسها، الساعية إلى اكتشاف مواهب جديدة وتمكينها". حامد مختار (الشريك الإداريّ في الشركة الإماراتية)، يقول إن الرؤية الخاصّة بالمشروع الجديد تتمثّل بـ"خلق استديو وقوة إنتاجية للتركيز على تطوير المواهب الجديدة الواعدة، وجودة الإنتاج، وقوّة التوزيع في العالم العربي والدول الأخرى". هذا حسنٌ. الكلام واضح، يُحدّد أطراً عامة للعمل المقبل. التعليق النقدي السليم يأتي لاحقاً. السينما العربية محتاجة إلى إنتاجات مشتركة بين مؤسّسات عربية، بدلاً من الانصراف الدائم إلى الغرب، بحثاً عن تمويل من هنا، أو عن شراكة إنتاجية من هناك، أو عن موزّع يتولّى مهمّة إيجاد صالات أجنبية لعرض المُنتَج السينمائي. الدول العربية برمّتها، باستثناء مصر، لا تملك شركات إنتاج متكاملة كنظيراتها الأوروبية والأميركية مثلاً، ما يجعل عملية الإنتاج المحليّ صعبة إلى حدّ كبير.
اقرأ أيضاً: مدينة السينما الفاضلة
سؤال الإنتاج السينمائي في العالم العربي ملحّ للغاية. فعلى الرغم من تحوّل إيجابيّ، إلى حدّ ما، طارئ عليه في الأعوام القليلة الماضية، يتمثّل بشيوع صناديق الإنتاج المدعومة من مهرجانات سينمائية أو من مؤسّسات مستقلّة أو بتغطية مالية من الحكومات الرسمية، إلاّ أن أحد جوانب الأزمة السينمائية العربية كامنٌ في غياب سياسة ثقافية للإنتاج، تعتمد خططاً بعيدة المدى، وتُشكّل هيكلية متكاملة للعمل الإنتاجي المتنوّع في إنتاج مشاريع مختلفة. خطط تضع ميزانيات جدّية، وتُكلّف منتجين فنانين، بدلاً من سطوة منطق التمويل الإنتاجي التجاري البحت، متابعة الفصول الكاملة لتنفيذ المشروع، وإيجاد أسس متينة للتوزيع والتسويق وغيرها.
مؤسّسات وحكومات
شركات الإنتاج الكبرى في مصر، البلد العربي الوحيد الذي لديه حركة إنتاجية متكاملة بحكم وجود شركات كهذه - من دون أي قراءة نقدية لإنتاجاتها ـ، مستمرة في إنتاج مشاريع ليست كلّها ذات سوية إبداعية واحدة طبعاً، بل يُمكن القول إن الإبداع في غالبيتها نادرٌ. فهي منصرفةٌ، غالباً، إلى التجاريّ ـ الاستهلاكيّ القادر وحده، بالنسبة إليهم، على إعادة المدفوع، إلى جانب بعض الأرباح. وهذا ليس أمراً دائم الحصول، إذ إن أفلاماً تجارية ـ استهلاكية عديدة، بنجوم "شبّاك التذاكر" أحياناً، لا تجذب مشاهدين كثيرين لشدّة روتينها البصري، مادةً ومعالجةً وشخصيات و"أفّيهات".
إلى جانب الغياب الواضح لشركات الإنتاج في الدول العربية، تقف الحكومات موقفاً سلبياً غالباً إزاء صناعة السينما: لا مبالاة بها (لبنان وفلسطين)، اهتمام بجذب رساميل خارجية لتصوير مشاريع سينمائية غربية (الأردن والإمارات العربية المتحدّة)، تقديم تمويل وإنتاج لأعمال محلية بشكل جدّي (دول المغرب العربي)، إلى جانب اهتمامها بجذب سينمائيين غربيين لتصوير أعمالهم فيها (المغرب تحديداً). "المؤسّسة العامة للسينما" في دمشق تمارس وظيفتها كمنتج أو كمموِّل أو كمساهم في الإنتاج ـ التمويل، قبل انطلاق الحراك الشعبي السلميّ المتحوّل لاحقاً إلى حرب طاغية ضدّ شعب أعزل، لكنها تمارس في الوقت نفسه، رقابة صارمة على الأفلام التي تساهم في صنعها، بمنع عرضها، وبالضغط على صانعيها لأسباب عديدة. شبيهتها في العراق منتهية وظيفتها منذ سنين مديدة، على نقيض النشاط السينمائي المستعاد من قِبل سينمائيين عراقيين يعودون إلى بلدهم أو يبقون فيه.
بعيداً عن "الإنتاجات الرسمية"، التي يحتال سينمائيون كثيرون عليها لحماية نتاجاتهم، تقدّم صناديق إنتاج ومؤسّسات مستقلّة (وإن يتبع معظمها سلطات رسمية)، "منحاً مالية" لدعم مشاريع مختلفة تُساعد صانعيها على تحقيقها. من هذه المؤسّسات: "الهيئة الملكية الأردنية للأفلام" (2003)، و"صندوق سند ـ أبوظبي" (2009)، و"برنامج إنجاز" التابع لـ"سوق دبي السينمائي" (2009)، و"مؤسّسة الشاشة في بيروت" (2009). هناك أيضاً "الصندوق العربي للثقافة والفنون ـ آفاق" (2007)، الذي يدعم ويموّل أعمالاً ونشاطات ثقافية وفنية متنوّعة، من بينها السينما. "آبّوت للإنتاج" (بيروت، 1998)، تُنتج أفلاماً روائية ووثائقية عربية بالمفهوم العلمي للإنتاج السينمائي.
هذه نماذج. "حصّالة للإنتاج الفني" في القاهرة (2012)، محاولة شبابية لتجديد نمط التعامل الإنتاجي مع سينما مستقلة. "جمعية بيروت دي سي" (1999) أيضاً. "حصّالة" تُساعد المخرجين الواعدين على تحقيق أفلامهم الطويلة الأولى، وعلى تملّك حقوق استغلال أفلامهم، وعلى تعلّم المهارات الأساسية لإنتاج أفلامهم بأنفسهم. الجمعية البيروتية معنية بتقديم المساعدة والدعم لصانعي الأفلام المستقلّين العرب، في مواجهة المعوقات التي تحول دون تحقيق أفلامهم، والتغلّب عليها. المحاولتان تُعينان على فهم حال الإنتاج العربي الشبابيّ راهناً، الذي يكشف أن للشباب إمكانيات فكرية وجمالية وثقافية تساهم في التغلّب على التحدّيات الموضوعة من قبل الرأسمال الإنتاجي. إمكانيات تشي بأن الإنتاج المتواضع والمستقلّ قادرٌ على تحقيق المعادلة السينمائية المطلوبة بين الشكل والمضمون في صناعة أفلام ذات سوية فنية ودرامية وتقنية متماسكة ومتينة الصُنعة. لكن هذا كلّه لا يعمل وفقاً لمنطق شركات الإنتاج الكبرى. فـ"حصّالة" مثلاً "شركة ذات مسؤولية محدودة"، تحصل على دعم مالي من "آفاق" و"المورد الثقافي" وغيرهما، ويعمل معها سينمائيون ذوو اختصاصات مختلفة كمتطوّعين. وهي تملك حالياً نحو 100 ألف دولار أميركي، مخصّصة باستكمال 12 مشروع فيلم طويل أوّل.
لا تشتمل القراءة هذه على العمل الإنتاجي العربي كلّه. آليات الإنتاج في المؤسّسات التابعة للحكومات أو المستقلّة مختلفة بعضها عن البعض الآخر، مع تشابه عام في أهداف وإمكانيات. إنها قراءة تفتح نقاشاً، وتحرّض على التمعّن أكثر في واقع الحال الإنتاجي العربي.
(كاتب لبناني)
حدثان مهمّان على مستوى الإنتاج السينمائي. لن تكون النتائج واضحة منذ الآن. الربط بين إنتاج سينمائي واشتغالات تلفزيونية في العالم العربي يثير قلقاً وريبةً، ويطرح أسئلة تُختزل بواحد: إلى أي مدى ستؤثّر عقلية الإنتاج التلفزيوني (بما هو عليه في العالم العربي حالياً من رداءة وارتباكات وخلل، أقلّه في معظم الأعمال المُنتجة في الأعوام القليلة الماضية، كما في منطق الإنتاج والاشتغالات) على أولوية الإبداع البصريّ في النتاج السينمائي. التداخل السينمائي ـ التلفزيوني في السلوك الإنتاجي العربي يؤدّي، غالباً، إلى فوضى العلاقة بين صناعتين مختلفتين تماماً. تجارب عديدة تؤكّد أن عقلية التلفزيون طاغية على أعمال يُراد لها أن تكون سينمائية.
المعادلة، إذاً، خطرة. دمج الجانبين في سلوك إنتاجي واحد "قد" يؤدّي إلى تأثيرات سلبية على السينما. السيناريست والمنتج المصري محمد حفظي (فيلم كلينك)، لديه خبرة في النتاج السينمائي الصرف. فهل يُحصّن السينمائيُّ فيه نفسَه من حاجات المنتج؟ الإنتاج محتاج إلى أموال، وكذلك السينما. أين سيُقام الحدّ الفاصل بين سطوة المال والإبداع الفني ـ الثقافي ـ الجمالي للسينما؟
اقرأ أيضاً: أفلام الثورات العربيّة: أشكال سينمائيّة تحمّست لتوثيق الآني
أفق إنتاجي مختلف
يُقال إن طرح أسئلة كهذه "سابق" لأوانه. ربما. تُطرح الأسئلة لإثارة نقاش يواكب مرحلة التحضير لإطلاق مرحلة جديدة من العمل الإنتاجي العربي. "هيئة المنطقة الإعلامية ـ أبوظبي" تريد تفرّغاً شبه كامل للإنتاج، واستقطاب مشاريع إماراتية وعربية للمساهمة في تمويلها وتنفيذها، وفتح مجال أوسع أمام أعمال أجنبية لتصويرها في أبوظبي. هذا حسنٌ. تصوير أعمال أجنبية يُدرّ أموالاً، يُفترض بها أن تُشكّل جزءًا من ميزانية إنتاج الأفلام المحلية والعربية. هناك تمنٍّ أن يكون التفرّغ مساهمة فعلية في صناعة سينما إماراتية وعربية مختلفة. تقول الهيئة إن خطوة إيقاف المهرجان والانتقال إلى الإنتاج "تُعدّ بمثابة المرحلة التالية في استكمال صناعة السينما في العاصمة الإماراتية"، وتؤكّد مواصلة جهودها في دعم صنّاع الأفلام الإماراتيين والعرب من خلال "صندوق سند"، الذي يوفّر دعماً لمشاريع سينمائية في مرحلة تطوير السيناريو، كما في المراحل النهائية للإنتاج، "بشكل يُمكّنهم من تطوير أفلامهم الروائية والوثائقية الطويلة، أو استكمالها".
"فورتريس فيلم كلينك" تريد العمل مع جهات إنتاجية لإنتاج أفلام سينمائية وعروض تلفزيونية وتوزيعها عربياً ودولياً. محمد حفظي يقول إن فائدة الشراكة هذه "لا تتمثّل في المساهمة من الناحية التمويلية والتطوير المتواصل فقط، لأن العمل سيكون مع أشخاص يحبّون السينما، ولديهم أهدافنا نفسها، الساعية إلى اكتشاف مواهب جديدة وتمكينها". حامد مختار (الشريك الإداريّ في الشركة الإماراتية)، يقول إن الرؤية الخاصّة بالمشروع الجديد تتمثّل بـ"خلق استديو وقوة إنتاجية للتركيز على تطوير المواهب الجديدة الواعدة، وجودة الإنتاج، وقوّة التوزيع في العالم العربي والدول الأخرى". هذا حسنٌ. الكلام واضح، يُحدّد أطراً عامة للعمل المقبل. التعليق النقدي السليم يأتي لاحقاً. السينما العربية محتاجة إلى إنتاجات مشتركة بين مؤسّسات عربية، بدلاً من الانصراف الدائم إلى الغرب، بحثاً عن تمويل من هنا، أو عن شراكة إنتاجية من هناك، أو عن موزّع يتولّى مهمّة إيجاد صالات أجنبية لعرض المُنتَج السينمائي. الدول العربية برمّتها، باستثناء مصر، لا تملك شركات إنتاج متكاملة كنظيراتها الأوروبية والأميركية مثلاً، ما يجعل عملية الإنتاج المحليّ صعبة إلى حدّ كبير.
اقرأ أيضاً: مدينة السينما الفاضلة
سؤال الإنتاج السينمائي في العالم العربي ملحّ للغاية. فعلى الرغم من تحوّل إيجابيّ، إلى حدّ ما، طارئ عليه في الأعوام القليلة الماضية، يتمثّل بشيوع صناديق الإنتاج المدعومة من مهرجانات سينمائية أو من مؤسّسات مستقلّة أو بتغطية مالية من الحكومات الرسمية، إلاّ أن أحد جوانب الأزمة السينمائية العربية كامنٌ في غياب سياسة ثقافية للإنتاج، تعتمد خططاً بعيدة المدى، وتُشكّل هيكلية متكاملة للعمل الإنتاجي المتنوّع في إنتاج مشاريع مختلفة. خطط تضع ميزانيات جدّية، وتُكلّف منتجين فنانين، بدلاً من سطوة منطق التمويل الإنتاجي التجاري البحت، متابعة الفصول الكاملة لتنفيذ المشروع، وإيجاد أسس متينة للتوزيع والتسويق وغيرها.
مؤسّسات وحكومات
شركات الإنتاج الكبرى في مصر، البلد العربي الوحيد الذي لديه حركة إنتاجية متكاملة بحكم وجود شركات كهذه - من دون أي قراءة نقدية لإنتاجاتها ـ، مستمرة في إنتاج مشاريع ليست كلّها ذات سوية إبداعية واحدة طبعاً، بل يُمكن القول إن الإبداع في غالبيتها نادرٌ. فهي منصرفةٌ، غالباً، إلى التجاريّ ـ الاستهلاكيّ القادر وحده، بالنسبة إليهم، على إعادة المدفوع، إلى جانب بعض الأرباح. وهذا ليس أمراً دائم الحصول، إذ إن أفلاماً تجارية ـ استهلاكية عديدة، بنجوم "شبّاك التذاكر" أحياناً، لا تجذب مشاهدين كثيرين لشدّة روتينها البصري، مادةً ومعالجةً وشخصيات و"أفّيهات".
إلى جانب الغياب الواضح لشركات الإنتاج في الدول العربية، تقف الحكومات موقفاً سلبياً غالباً إزاء صناعة السينما: لا مبالاة بها (لبنان وفلسطين)، اهتمام بجذب رساميل خارجية لتصوير مشاريع سينمائية غربية (الأردن والإمارات العربية المتحدّة)، تقديم تمويل وإنتاج لأعمال محلية بشكل جدّي (دول المغرب العربي)، إلى جانب اهتمامها بجذب سينمائيين غربيين لتصوير أعمالهم فيها (المغرب تحديداً). "المؤسّسة العامة للسينما" في دمشق تمارس وظيفتها كمنتج أو كمموِّل أو كمساهم في الإنتاج ـ التمويل، قبل انطلاق الحراك الشعبي السلميّ المتحوّل لاحقاً إلى حرب طاغية ضدّ شعب أعزل، لكنها تمارس في الوقت نفسه، رقابة صارمة على الأفلام التي تساهم في صنعها، بمنع عرضها، وبالضغط على صانعيها لأسباب عديدة. شبيهتها في العراق منتهية وظيفتها منذ سنين مديدة، على نقيض النشاط السينمائي المستعاد من قِبل سينمائيين عراقيين يعودون إلى بلدهم أو يبقون فيه.
بعيداً عن "الإنتاجات الرسمية"، التي يحتال سينمائيون كثيرون عليها لحماية نتاجاتهم، تقدّم صناديق إنتاج ومؤسّسات مستقلّة (وإن يتبع معظمها سلطات رسمية)، "منحاً مالية" لدعم مشاريع مختلفة تُساعد صانعيها على تحقيقها. من هذه المؤسّسات: "الهيئة الملكية الأردنية للأفلام" (2003)، و"صندوق سند ـ أبوظبي" (2009)، و"برنامج إنجاز" التابع لـ"سوق دبي السينمائي" (2009)، و"مؤسّسة الشاشة في بيروت" (2009). هناك أيضاً "الصندوق العربي للثقافة والفنون ـ آفاق" (2007)، الذي يدعم ويموّل أعمالاً ونشاطات ثقافية وفنية متنوّعة، من بينها السينما. "آبّوت للإنتاج" (بيروت، 1998)، تُنتج أفلاماً روائية ووثائقية عربية بالمفهوم العلمي للإنتاج السينمائي.
هذه نماذج. "حصّالة للإنتاج الفني" في القاهرة (2012)، محاولة شبابية لتجديد نمط التعامل الإنتاجي مع سينما مستقلة. "جمعية بيروت دي سي" (1999) أيضاً. "حصّالة" تُساعد المخرجين الواعدين على تحقيق أفلامهم الطويلة الأولى، وعلى تملّك حقوق استغلال أفلامهم، وعلى تعلّم المهارات الأساسية لإنتاج أفلامهم بأنفسهم. الجمعية البيروتية معنية بتقديم المساعدة والدعم لصانعي الأفلام المستقلّين العرب، في مواجهة المعوقات التي تحول دون تحقيق أفلامهم، والتغلّب عليها. المحاولتان تُعينان على فهم حال الإنتاج العربي الشبابيّ راهناً، الذي يكشف أن للشباب إمكانيات فكرية وجمالية وثقافية تساهم في التغلّب على التحدّيات الموضوعة من قبل الرأسمال الإنتاجي. إمكانيات تشي بأن الإنتاج المتواضع والمستقلّ قادرٌ على تحقيق المعادلة السينمائية المطلوبة بين الشكل والمضمون في صناعة أفلام ذات سوية فنية ودرامية وتقنية متماسكة ومتينة الصُنعة. لكن هذا كلّه لا يعمل وفقاً لمنطق شركات الإنتاج الكبرى. فـ"حصّالة" مثلاً "شركة ذات مسؤولية محدودة"، تحصل على دعم مالي من "آفاق" و"المورد الثقافي" وغيرهما، ويعمل معها سينمائيون ذوو اختصاصات مختلفة كمتطوّعين. وهي تملك حالياً نحو 100 ألف دولار أميركي، مخصّصة باستكمال 12 مشروع فيلم طويل أوّل.
لا تشتمل القراءة هذه على العمل الإنتاجي العربي كلّه. آليات الإنتاج في المؤسّسات التابعة للحكومات أو المستقلّة مختلفة بعضها عن البعض الآخر، مع تشابه عام في أهداف وإمكانيات. إنها قراءة تفتح نقاشاً، وتحرّض على التمعّن أكثر في واقع الحال الإنتاجي العربي.
(كاتب لبناني)