تتصاعد الأزمات الاقصادية والسياسية في تونس تزامنا مع تقديم رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ استقالته. ويأتي ذلك وسط تفاقم الأوضاع المعيشية وتوسّع دائرة الفقر إلى مستويات قياسية عقب جائحة كورونا، وفي ظل تحذيرات من دخول المال السياسي، وخاصة من الإمارات، إلى الساحة وإشعالها لاضطرابات تهدد اقتصاد تونس وعملته المحلية "الدينار" بمزيد من الأزمات.
وبدأ الصراع السياسي يحتدم في البلاد عقب الكشف عن شبهات تضارب مصالح تعلقت برئيس الوزراء ودعوة حزب حركة النهضة (حزب الأغلبية في البرلمان) إلى سحب الثقة منه (قبل تقديم استقالته)، باعتبار أنه غير قادر على مواصلة قيادة الحكومة بسبب ما يحوم حوله من شبهات فساد وتفاقم الفقر والأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
ويمنع الصراع بين أطراف الحكم أي مبادرة للإصلاح الاقتصادي بسبب ضعف التوافق حول البرامج وغياب الحزام السياسي الكافي لإسناد القرارات ومبادراتها التشريعية التي تعرضها على البرلمان.
عرقلة خطط الإنعاش
وتؤجل الأزمة السياسية كل خطط إنعاش الاقتصاد الذي خرج منهكا من جائحة كورونا عقب تراجع نسبة النمو إلى ما دون 6.5 بالمائة وفقدان أكثر من 270 ألف تونسي وظائفهم، فضلا عن تفاقم الدين العام للبلاد وشح الموارد الذاتية.
والإثنين الماضي، أعلن وزير المالية، نزار يعيش، عن عدم قدرة الاقتصاد التونسي على تحقيق نسبة النمو المتوقعة سابقا بـ1.7 بالمائة، مشيرا إلى أن التراجع في النمو سيفوق 7 نقاط ليستقر في حدود 6.5 بالمائة.
وقال يعيش إن مداخيل الدولة الذاتية المتأتية من الموارد الجبائية تراجعت بنسبة 4.6 بالمائة مقارنة بذات الفترة من العام الماضي، مسببة فجوة في الموازنة بنحو 5 مليارات دينار وتوسع عجز الميزانية إلى 7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بـ3 بالمائة في التوقعات السابقة.
ورجح يعيش أن ترتفع نسبة المديونية تجاه الخارج إلى 85 بالمائة مقابل 71 بالمائة من الناتج المحلي تم ترسيمها في قانون الموازنة.
ويقرع المهتمون بالشأن الاقتصادي أجراس الخطر محذرين من تداعيات سريعة للأزمة الاقتصادية على البلاد ومطالبين بالنأي بمناخ الأعمال عن المشاكل الحزبية.
واعتبر الخبير المالي، محسن حسن، أن الأزمة السياسية ستجرّ الاقتصاد إلى مزيد من المتاعب، مرجحا تعثر كل خطط الإنعاش الاقتصادي بسبب فقدان أحزاب وازنة في البرلمان ثقتها بحكومة الفخفاخ.
وقال حسن في تصريح لـ"العربي الجديد" إن الإنعاش الاقتصادي يحتاج إلى حزام سياسي صلب واتفاق بين الأحزاب والمنظمات الوطنية على الخطوط الكبرى للإصلاح الاقتصادي السريع، وهو ما تفتقد له حكومة الفخفاخ المهددة بسحب الثقة.
ويدفع الاقتصاد التونسي، بحسب حسن، ثمنا باهظا للأزمات السياسية التي مرت بها البلاد على امتداد التسع سنوات الماضية، مؤكدا أن الإصلاح يحتاج إلى تنقية مناخ الأعمال وطمأنة المستثمرين وهو ما تفتقده تونس.
وحذر من خطورة الانهيار الشامل للاقتصاد بعد توقف محركات الإنتاج وتراجع أداء العديد من القطاعات الأساسية، معتبرا أن هوامش المناورة انتهت بعد وصول المالية العمومية للخطوط الحمراء وعدم قدرة البلاد على الإيفاء بتعهداتها المالية تجاه الخارج.
وقال وزير التنمية والتعاون الدولي، سليم العزابي، الاثنين الماضي، إن تونس تفاوض عددا من البلدان من أجل إرجاء دفوعات قروض مستحقة يفترض أن تسددها البلاد هذا العام.
وأكد العزابي أن الحكومة دخلت في مفاوضات مع كل من دولة قطر وفرنسا وإيطاليا والسعودية لتأجيل القروض المتوقعة لهذه السنة بسبب صعوبات الماضية العمومية ومخلفات أزمة كورونا.
وأعلنت الحكومة بداية الأسبوع الجاري عن تفاصيل خطة إنقاذ اقتصادية تمتد 9 شهور مقبلة تتضمن الدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ومواجهة تبعات تفشي جائحة "كورونا".
وتتضمن خطة الإنقاذ المحافظة على نسيج المؤسسات الاقتصادية، من خلال مواصلة توفير السيولة لها بضمان الدولة، بقيمة 1.5 مليار دينار (526 مليون دولار).
كذلك، تشمل الخطة توفير 100 مليون دينار (35 مليون دولار)، في إطار مواصلة اعتماد آلية البطالة الفنية، عبر دفعات مالية للمتعطلين عن العمل بسبب جائحة كورونا.
كذلك قالت الحكومة إنها تنوي تخصيص 700 مليون دينار (245 مليون دولار) للمؤسسات الراغبة في إعادة هيكلة نفسها، وتسديد مستحقات المؤسسات لصالح المزودين بقيمة مليار دينار (350 مليون دولار).
غير أن تنفيذ خطة الإنقاذ يواجه صعوبات عديدة بسبب فقدان الحكومة لشرعيها السياسية نتيجة شبهات الفساد التي تحوم حول رئيسها إلياس الفخفاخ.
المال السياسي
ينتظر أن تكشف لجنة تحقيق برلمانية عن تفاصيل تضارب مصالح تورط فيها الفخفاخ بعد انتفاع شركات يملك أسهما فيها بصفقات حكومية بقيمة 43 مليون دينار (15 مليون دولار).
وقال عضو البرلمان، نور الدين البحيري، إن البلاد تحتاج إلى حكومة تعيد الثقة للتونسيين ولها القدرة على مواجهة الظرف الصعب وحماية المواطنين من مطبات الفقر، مؤكدا أن الحكومة التي تورطت في شبهات الفساد لا تحقق ما يتطلع إليه المواطنون في البلاد.
وأضاف البحيري في حديثه لـ"العربي الجديد" أن أحزابا تتلقى أموالا من دولة الإمارات تريد تعطيل عمل البرلمان والتشويش على التجربة الديمقراطية التونسية وإغراق البلاد في الفوضى.
احتقان الجنوب
ويتواصل جنوب تونس الاحتقان بعد عجز الحكومة عن تقديم حلول للمعتصمين المطالبين بالشغل. وأعلن معتصمو الكامور عن قطع الضخ من الحقول البترولية بداية من اليوم الخميس، بعد أن نصبوا الخيام في محيط المؤسسات النفطية، مطالبين بتوفير 2000 فرصة عمل سبق أن تعهدت بها حكومة الشاهد التي وقعت اتفاقا مع المحتجين في الجهة عام 2017.
ويحول عجز الموازنة المتفاقم دون قدرة الحكومة على الإيفاء بأي التزامات مالية مع الداخل والخارج، ما يعيد البلاد قريبا إلى طرق باب صندوق النقد الدولي لمناقشة اتفاق مالي جديد، يرجّح أن تكون شروطه أكثر إجحافا من القروض السابقة.
وأعلن وزير المالية بدء الحكومة في إعداد الملف التقني لتقديم طلب رسمي لصندوق النقد الدولي من أجل برنامج تعاون جديد يمتد على أربع سنوات.
وأجمعت المنظمات الوطنية (اتحاد الشغل، منظمة رجال الأعمال، منظمة الفلاحين) على ضرورة الابتعاد عن التجاذبات والصراعات السياسية وتغليب المصلحة العليا للوطن والإسراع بمعالجة القضايا والاستحقاقات الحقيقية للتونسيين، مؤكدين أن الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي يتطلب الاحتكام إلى الحوار وبناء وحدة وطنية حقيقية.
ودعت المنظمات إلى النأي بالاقتصاد عن التجاذبات السياسية في أعقاب لقاء جمعها برئيس الحكومة.
وكان الفخفاخ يبحث عن الحماية تحت مظلة المنظمات الوطنية متعهدا بتلبية المطالب العاجلة للجهات بعيدا عن التجاذبات السياسية والصراعات الحزبية،
وشدد رئيس الحكومة قبل تقديم استقالته على أن الوضع الاقتصادي المنهك جراء تداعيات أزمة كورونا وتفاقم أزماته الهيكلية يستدعي التعجيل بتنفيذ خطة الإنقاذ التي أطلقتها الحكومة ويتطلب من الجميع مزيدا من التضامن والوحدة لتحقيق الأهداف المرسومة لها وفق بيان صدر أول من أمس.