الاقتراب غير المباشر

10 سبتمبر 2014

تظاهرة فلسطينية في رام الله تطالب بإنهاء اتفاقيات أوسلو(11سبتمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

مأزق الشعب الفلسطيني اليوم، نشأ عندما بدأت تطبيقات اتفاق أوسلو لإعلان المبادىء. وفي الحقيقة، كانت صيغة أوسلو تحايلية، تقلب ترتيب المراحل، وقد تعمدها الأميركيون والمحتلون الإسرائيليون، في استعادة سياسيةٍ لمبدأ عسكري، نفذه الإسرائيليون بحذافيره في حرب العام 1967، وهو "الاقتراب غير المباشر" الذي ابتدعه المفكر العسكري الاستراتيجي، الإنجليزي ليدل هارت (1895 ـ 1970). يعتمد هذا المبدأ خطة الالتفاف على النقاط "القوية" وتجاوزها، والاندفاع إلى النقاط الضعيفة مع التقدم وكسب المساحات، ما يعزل النقاط القوية عن خطوط إمدادها، ويتركها مقطوعة الصلة بعمقها، وبعد إتمام التوغل في مسرح العمليات والوصول إلى النقطة المبتغاة، تكون النقاط القوية المتروكة في الخلف، أُضعفت معنوياً وأحست بعزلتها، فيجري التفرغ للإجهاز عليها!

عندما توغل الإسرائيليون في سيناء، ونفذوا طريقة "الاقتراب غير المباشر" بإيقاع سريع، صرح ليدل هارت نفسه إن "خطتي نُفذت ضد مصر بنجاح، على النحو الذي لم أكن أنا نفسي أتخيله".

في ألاعيب التسوية، بدأ عمل الإسرائيليين والأميركيين بهذا المنطق، قبل الوصول إلى أوسلو. فبعد حرب الخليج الثانية، انطلقت المفاوضات بمؤتمر مدريد، ثم بات السياق يحمل اسم مدريد واشنطن، وشُكلت اللجان الثنائية وعُرف ما سُميت "المسارات". وبسبب أن القضية الفلسطينية هي النقطة الصعبة، أوشكت اللجان الثنائية على "إنجاز" عملها، باستثناء اللجنة ذات المسائل الجوهرية المتعلقة بفلسطين. ذاب الثلج الذي وُضع على التمثيل الفلسطيني بدمجه مع التمثيل الأردني، وبات الفريق الفلسطيني داخل الوفد المشترك عقدة المنشار. ولكي يربح المحتلون ما تم إنجازه على المسارات الأخرى، عملوا ببراعة على سحب البساط من تحت أقدام الوفد الفلسطيني الذي أعياه السفر إلى واشنطن، ففتحوا قناة سرية مع منظمة التحرير الفلسطينية، في نقطةٍ لا تخطر على البال، علماً أن "المنظمة" كانت مرفوضة يوم انطلاق مؤتمر مدريد. فتحهم اللئيم هذا كان له هدفان عاجلان: التحرر من شرط التقدم المتزامن لجميع اللجان، والتخلص من مفاوضي الداخل الفلسطيني الذين حملوا إلى المفاوضات شروط منظمة التحرير المعلنة، والتزموا بها بصرامة، وأظهروا حماسة أيديولوجية للتمسك بالأهداف، حتى بات الخط التسووي في منظمة التحرير "أرحم" لهم بكثير!

توصلوا الى اتفاق أوسلو لإعلان المبادىء، وسرعان ما شرعوا في التطبيقات، بعد إقامة حفل توقيع أسطوري في الساحة الخلفية للبيت الأبيض، يشبه احتفالات الأباطرة الرومان في التاريخ. لكن، الاتفاق نفسه، كان يقلب الأولويات بطريقة عجيبة، إذ لم يحدث، في تاريخ حل النزاعات، أن جرى التطبيق بالجملة، بينما الحل نفسه بالقطاعي، يتمثل خطة "الاقتراب غير المباشر"، وهي ترك النقاط الصعبة للأخير الذي سموه "الوضع النهائي". طبائع الاتفاقات على حل النزاعات تكون بالعكس، أي الاتفاق على صيغة الحل، ونقاطه الكاملة مرة واحدة وبالجملة، على أن يكون التطبيق هو الذي ينفذ على مراحل!

في ذلك الخضم، جرى تنجير معظم الخوازيق، بدءاً بضخ حيثيات منظمة التحرير إلى إطار السلطة، لتصبح قواتها المقاتلة قوة أمنية، وإداراتها وزارات، ومناضلوها مسؤولين يشبهون رجال الدولة المترفة، وهذا كله جعل الحركة الوطنية الفلسطينية، في مساحةٍ لها تعريفها في خطط الأميركيين، للإجهاز على ظواهر المقاومة والتمرد، وهو "المساحة المبوبة" The Gate Area التي لا يُفتح لها باب حُر، إلا من النفق. هنا، نشأت على أرضٍ ضيقة شرعيتان، أو شبه شرعيتين، معمول بهما في الأوطان: الشرعية الدستورية التي تبني وتنظم حياة الناس في الأوطان المستقلة، وشرعية المقاومة التي تتصدى لاحتلالٍ ما زال قائماً بالفعل. الثانية ليست ظاهرة قانونية، وإنما ظاهرة تاريخية يقرّها القانون الدولي. وبسبب وجود شرعيتين، لهما ما يبررهما، على أرض واحدة، نشأ مأزق الفلسطينيين في الحكم وفي الحرب وفي السلم وفي المصالحة!