الاستيطان لغة وواقعاً

03 يوليو 2016
جعفر الخالدي / فلسطين
+ الخط -

تسمي اللغة العربية من يتخذ مكاناً، لم يكن مكانه الأصل، وطناً له: مستوطناً. إنه ذلك الذي يجيء، لسبب ما، الى مكان ويقيم فيه. ويظل فعل الاستيطان، في اللغة العربية، محايداً أكثر من فعل الاستعمار.

فالاستيطان اتخاذ المكان وطناً بصرف النظر عما هو عليه المكان من أحوال، أما الاستعمار فهو من فعل التعمير والبناء سواء في مكان خلوٍ منهما أم في مكان لم يكن كذلك. وفي القرآن يرد ذكر الاستعمار بمعنى الإقامة والتمكن في مكان كان خلوا منهما: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا).

أظن أن العرب ترجموا المصطلح الإنكليزي Colonization، إلى كلمة استعمار. ليس هناك فارق نوعي، في الإنكليزية، بين الاستيطان والاستعمار. فهم أطلقوا هذا المصطلح، على ما يبدو، في أثناء غزوهم "العالم الجديد". فهناك أقيمت المستوطنات الأولى التي كانت جسراً لنقل المزيد من سكان أوروبا، و"العبيد" من أفريقيا، إلى تلك المستوطنات، التي أطلقت حملة إبادة للسكان الأصليين. والاستيطان بهذا المعنى هو إقامة تجمّع بشري في مكان بعيد عن البلد الأصلي.

لا شكَّ في أننا أسأنا الترجمة. فلم يأت الاحتلاليون الغربيون إلى بلادنا في نهاية القرن التاسع عشر (والثامن عشر بالنسبة للجزائر) ولم يجدوا فيها سكاناً. لم تكن بقعة من "العالم الجديد" الذي زعموا أنه لم يكن فيه بشر (على صورتهم) ولم يعرف الحضارة، بل جاؤوا الى أقدم بقعة مأهولة في العالم.

لقد ترجمنا مصطلحهم واستخدمناه وصفاً لفعلهم الاحتلالي، رغم أن الغزو الغربي للعالم العربي لم يكن بشرياً إلا في مناطق محدودة (الجزائر مثلاً). لقد كان احتلالاً بقوة السلاح. جاء في ركبه مدنيون، ولكنهم كانوا في خدمة الاحتلال العسكري.

لا أدري لِمَ وصفت أدبياتنا السياسية، بل وكلام الناس الدارج، تجمعات المهاجرين الصهاينة إلى فلسطين بأنها "مستعمرات". ربما لأن المستوطنين الصهاينة الأوائل استخدموا مصطلح colony الإنكليزي. ولا يزال الكثير من المتقدمين في السن، في فلسطين وجوارها، يصفون المستوطنات الصهيونية بـ : المستعمرات.

ومن دون الدخول في تفاصيل لغوية، بين الإنكليزية والعربية، فإن مصطلح الاستيطان أكثر دلالة على الأصل الذي يصدر منه. فالمستوطنة، لا تزال تشير، حتى بالنسبة لمتابعي أفلام الخيال العلمي، إلى التجمّع البشري في مكان بعيد عن المكان الأصل وغير مأهول. حتى وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) تتحدث عن إمكانية قيام مستوطنات بشرية في مكان ما في الفضاء، أي في مكان خلو من البشر.

هذا ما قالته الدعاية الصهيونية عندما بدأت تخطط لإقامة رأس جسر لمشروعها في فلسطين. إنه استيطان في أرض لا بشر فيها، أو قليلة السكان، أو صحراء. وهم تصرفوا تصرُّف من يقيم نواة تجمّع بشري في محيط معاد، أو غير مأمون.

لم يسكن المهاجرون الصهاينة في القرى والمدن العربية، بل في أمكنة مخصصة لهم سميت مستوطنات، أو سماها الفلسطينيون "مستعمرات" (ومنها الكيبوتسات ذات النمط الاشتراكي). يفد المهاجرون الذين لا يملكون أجندة إلى بلدان كثيرة، بيد أنهم يسكنون وسط أهل البلاد، يعملون في أراضيهم ومصالحهم، وقد ينشؤون مصالح لهم لكنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بسوق البلاد وتلتزم قانونها. وليس هذا ما فعله المستوطنون الصهاينة، الذين جاؤوا إلى فلسطين وفق أجندة استيطان سياسية تتكئ إلى خرافات دينية لا سند تاريخياً لها.

ومثلما فعل المستوطنون الصهاينة الأوائل، الذين كانوا نواة الكيان اللاحق، يفعل مستوطنو الضفة الغربية. فهم ليسوا "مدنيين" إلا بالاسم. فوجودهم مسلح بالقانون (قانونهم) ومحروس بالجيش (جيشهم). يتخذون من المواقع المشرفة، الجبلية، الاستراتيجية مكاناً لهم.

وهذه الأمكنة التي بدأت صغيرة، معزولة، راحت تكبر وتقضم، مثل القوارض، بدأبٍ، كل ما حولها. كيف يمكن لدولة فلسطينية أن تقوم في أرض مقطعة، لا ترابط بينها؟