28 مايو 2017
الاستفتاءات في غياب الديمقراطية
لا يُتاح للمجتمع السعودي ممارسة الديمقراطية في أيّ مستوى من المستويات، لكنه، مع ذلك، مغرم بصناعة الاستطلاعات الجماهيرية والمشاركة فيها وتداولها وتأويلها، وهذه، بحدّ ذاتها، مسألة لافتة.
فقدان الممارسات الديمقراطية في المجتمعات العربية عموماً يوجِد مجتمعاتٍ تحمل تصوراتٍ غامضة ومضطربة وحدّية عن ذاتها. الديمقراطية المفقودة هنا مسألة تتجاوز افتقار ممارسة الاقتراع إلى فقدان العُمق الاجتماعي الكثيف للديمقراطية. هناك، حيث يحدث الجدل الاجتماعي بحُرية قُصوى، فيسمع المجتمع نفسه، ويبتكر ذاته، ويخلق رموزه ويتداول المعلومات حول واقعه بشفافية. مثل هذه الممارسات الاجتماعية هي ما يوفر فرصة أكبر أمام الفرد، ليكون، إن أراد، أكثر اتّزاناً وأوسع إدراكاً وأعمق معرفة، عندما يتحدّث عن مجتمعه قائلاً "نحن". غياب هذا العمق الديمقراطي يودع المجتمع في العتمة، ويجعل حديث الفرد عن المجتمع، قائلاً "نحن" إما مسألة متعذرة جداً، أو مُبتذلة للغاية. وهنا، يأتي دور التصويت والاستطلاع بكل وسيلة تقنية ممكنة في هذا المجتمع (تصويت في أثناء برامج التلفزيون، تصويت في مواقع الصحف، تصويت في تويتر)، وبمختلف الأسس والأساليب التي تتكفل بإعطاب النتائج، المُشبعة بالانحيازات والتضليل، من أجل أن تُستخدم، في النهاية، لا في توضيح حقيقة، ولكن في تبرير الانحياز، تحت غطاء من العلموية الاجتماعية والإحصاءات الـمُختلّة.
خلال الأسبوع الماضي، على ضفاف الجدل الاجتماعي حول "التنظيم" الجديد لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، قامت حربٌ، أداتها التصويت والاستطلاع على التنظيم الجديد ومدى تأييده اجتماعياً. كانت هذه الحرب مناسبة نموذجية لرصد هذا الاستعمال المختل للتقنية ولفكرة المسح الاجتماعي، معاً. اجتهد معارضو التنظيم (الذي يعطّل أهمّ سلطات الهيئة) ومؤيدوه في استعمال خاصية التصويت المتوفرة على "تويتر" لطرح الأسئلة التي يُفترض أنها تستطلع الموقف الاجتماعي العام من القرار. الاستطلاعات المختلفة بصِيَغها الـمُنحازة كافة، والتي تواصلت أياماً بمشاركة عشرات الآلاف، انتهى أكبرها إلى نتائج متقاربة، ينقسم فيها المصوتون بالتساوي بين الرفض والتأييد. في أثناء التصويت وبعده، واجه
الـمُستَطلِعون صعوبةً في السيطرة على مسار التصويت، وتوجيهه نحو الإجابة التي يرغبونها، وبعد تدخلات اللحظة الأخيرة، انتهى التصويت لصالح مَن طرحه بفوارق طفيفة، أو بدون فوارق على الإطلاق، وشكل تفسير هذه النتائج مأزقاً بدوره، فهي لا تحمل التأييد الكاسح الـمُرتجى للهيئة، ولا لتقييدها. كانت النتائج تقول الشيء وعكسه، حرفياً. اضطر بعض من وضع التصويت إلى تفسير النتيجة بهجمات منظمة وشرسة من قوى خارجية ومن الملاحدة ومن الشيعة، إلخ. وأشار آخرون، بعد هذه النتائج، إلى أن لا أهمية، أصلاً، للأصوات، ولا لرأي العامة والجمهور، عندما يتعلق الأمر بـ "الثوابت" و"المبادئ".
يُلمح هذا المشهد، أولاً، إلى اضطراب علاقةٍ من طرح مثل هذه الاستطلاعات من نُخب دينية وثقافية، بالمجتمع من ناحية، وبالمبدأ من ناحية أخرى. هناك مشكلة في أن هذه النخب لا تملك تصوراتٍ متّزنة عن اتجاهات المجتمع الذي تزعم أنها نُخبته، ثم هناك مشكلة في أنها لا ترغب في معرفة اتجاهات هذا المجتمع، بقدر ما ترغب في استخدامها، ثم هناك مشكلة في أنها مُمزقة بين الجماهيرية والمبدأ، فهي تستنجد بالجماهيرية والأكثرية إذا توفرت لها، أو ظنت أنها قد تتوفر لها. لكن، عندما تخذلها الجماهيرية والاتجاهات العامة، تعود هذه النخب إلى تبنّي خطاب المبدأ والثابت الذي لا يقبل المساومة ولا ينتقص منهُ أن يكون الناس ضده، بل هم الناقصون. وعلى الرغم من تأكيدهم الدائم إدراكهم أن هذا النمط من الاستطلاعات ضعيف المصداقية، ومُنحاز سلفاً، إلا أنهم يعودون إلى الاستشهاد بها، متى لاءمتهم النتيجة، ويصير الأمر أسوأ عندما تمتزج الاستطلاعات المعطوبة بتأويلٍ متعسف ورغبويّ. فخلف هذه الرغبة في استطلاع آراء أفراد المجتمع، تختبئ الرغبة في احتكار المعرفة بهذا المجتمع، وبما يريد وما يصلح له والحديث باسمه، مُفضية إلى مزيدٍ من التضليل والتشوه في التصورات حوله.
يبدو، في هذه الحال، أن من الأفضل، عندما يفتقر مجتمع ما إلى الديمقراطية والفضاء العام الحرّ، و إلى وسائل التعبير، وإلى حرية البحث والوصول إلى المعلومات، يبدو أنه من الأفضل، في هذه الحال، ألا يُقبل على ما تتيحه التقنية والإعلام من استطلاعاتٍ معطوبة، لأنها قادرةٌ، ببساطة، على نقل المجتمع من جهله بذاته إلى توهّم تصورات مشوهة عنها.
ويبدو، أيضاً، أن الاستخدام الأفضل لميزة التصويت في "تويتر"، يتمثل في توظيفها في خدمة أسئلةٍ، هي في غاية الشخصية، والعبثية، والسخرية، والفراغ من أي دلالة، وهو الفراغ الذي يليق بها كوسيلة استطلاع.
@Emanmag
فقدان الممارسات الديمقراطية في المجتمعات العربية عموماً يوجِد مجتمعاتٍ تحمل تصوراتٍ غامضة ومضطربة وحدّية عن ذاتها. الديمقراطية المفقودة هنا مسألة تتجاوز افتقار ممارسة الاقتراع إلى فقدان العُمق الاجتماعي الكثيف للديمقراطية. هناك، حيث يحدث الجدل الاجتماعي بحُرية قُصوى، فيسمع المجتمع نفسه، ويبتكر ذاته، ويخلق رموزه ويتداول المعلومات حول واقعه بشفافية. مثل هذه الممارسات الاجتماعية هي ما يوفر فرصة أكبر أمام الفرد، ليكون، إن أراد، أكثر اتّزاناً وأوسع إدراكاً وأعمق معرفة، عندما يتحدّث عن مجتمعه قائلاً "نحن". غياب هذا العمق الديمقراطي يودع المجتمع في العتمة، ويجعل حديث الفرد عن المجتمع، قائلاً "نحن" إما مسألة متعذرة جداً، أو مُبتذلة للغاية. وهنا، يأتي دور التصويت والاستطلاع بكل وسيلة تقنية ممكنة في هذا المجتمع (تصويت في أثناء برامج التلفزيون، تصويت في مواقع الصحف، تصويت في تويتر)، وبمختلف الأسس والأساليب التي تتكفل بإعطاب النتائج، المُشبعة بالانحيازات والتضليل، من أجل أن تُستخدم، في النهاية، لا في توضيح حقيقة، ولكن في تبرير الانحياز، تحت غطاء من العلموية الاجتماعية والإحصاءات الـمُختلّة.
خلال الأسبوع الماضي، على ضفاف الجدل الاجتماعي حول "التنظيم" الجديد لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية، قامت حربٌ، أداتها التصويت والاستطلاع على التنظيم الجديد ومدى تأييده اجتماعياً. كانت هذه الحرب مناسبة نموذجية لرصد هذا الاستعمال المختل للتقنية ولفكرة المسح الاجتماعي، معاً. اجتهد معارضو التنظيم (الذي يعطّل أهمّ سلطات الهيئة) ومؤيدوه في استعمال خاصية التصويت المتوفرة على "تويتر" لطرح الأسئلة التي يُفترض أنها تستطلع الموقف الاجتماعي العام من القرار. الاستطلاعات المختلفة بصِيَغها الـمُنحازة كافة، والتي تواصلت أياماً بمشاركة عشرات الآلاف، انتهى أكبرها إلى نتائج متقاربة، ينقسم فيها المصوتون بالتساوي بين الرفض والتأييد. في أثناء التصويت وبعده، واجه
يُلمح هذا المشهد، أولاً، إلى اضطراب علاقةٍ من طرح مثل هذه الاستطلاعات من نُخب دينية وثقافية، بالمجتمع من ناحية، وبالمبدأ من ناحية أخرى. هناك مشكلة في أن هذه النخب لا تملك تصوراتٍ متّزنة عن اتجاهات المجتمع الذي تزعم أنها نُخبته، ثم هناك مشكلة في أنها لا ترغب في معرفة اتجاهات هذا المجتمع، بقدر ما ترغب في استخدامها، ثم هناك مشكلة في أنها مُمزقة بين الجماهيرية والمبدأ، فهي تستنجد بالجماهيرية والأكثرية إذا توفرت لها، أو ظنت أنها قد تتوفر لها. لكن، عندما تخذلها الجماهيرية والاتجاهات العامة، تعود هذه النخب إلى تبنّي خطاب المبدأ والثابت الذي لا يقبل المساومة ولا ينتقص منهُ أن يكون الناس ضده، بل هم الناقصون. وعلى الرغم من تأكيدهم الدائم إدراكهم أن هذا النمط من الاستطلاعات ضعيف المصداقية، ومُنحاز سلفاً، إلا أنهم يعودون إلى الاستشهاد بها، متى لاءمتهم النتيجة، ويصير الأمر أسوأ عندما تمتزج الاستطلاعات المعطوبة بتأويلٍ متعسف ورغبويّ. فخلف هذه الرغبة في استطلاع آراء أفراد المجتمع، تختبئ الرغبة في احتكار المعرفة بهذا المجتمع، وبما يريد وما يصلح له والحديث باسمه، مُفضية إلى مزيدٍ من التضليل والتشوه في التصورات حوله.
يبدو، في هذه الحال، أن من الأفضل، عندما يفتقر مجتمع ما إلى الديمقراطية والفضاء العام الحرّ، و إلى وسائل التعبير، وإلى حرية البحث والوصول إلى المعلومات، يبدو أنه من الأفضل، في هذه الحال، ألا يُقبل على ما تتيحه التقنية والإعلام من استطلاعاتٍ معطوبة، لأنها قادرةٌ، ببساطة، على نقل المجتمع من جهله بذاته إلى توهّم تصورات مشوهة عنها.
ويبدو، أيضاً، أن الاستخدام الأفضل لميزة التصويت في "تويتر"، يتمثل في توظيفها في خدمة أسئلةٍ، هي في غاية الشخصية، والعبثية، والسخرية، والفراغ من أي دلالة، وهو الفراغ الذي يليق بها كوسيلة استطلاع.
@Emanmag