الاستشهادي السوري جول جمال في أجواء حرب السويس 1956

17 أكتوبر 2016

مدخل قناة السويس أثناء حرب 1956.. وجول جمال

+ الخط -
تمر قبل نهاية هذه السنة (2016)، الذكرى الستون لاستشهاد الضابط البحري السوري، جول جمال، في المياه الإقليمية المصرية، بعدما صدم أحد الزوارق الحربية الفرنسية وأعطبه، في أثناء التصدي للعدوان البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر غداة تأميم قناة السويس. وتندرج قصة جول جمال، وهو أول استشهادي في التاريخ العربي الحديث، في سياق واحد مع قرار تأميم قناة السويس الذي اتخذه الرئيس جمال عبد الناصر في 1956، والذي كان من عقابيله العدوان الثلاثي على مصر.

القناة هي الأصل
كان أحد خطوط التجارة القديمة يمر من جنوبي قارة أوروبا، ومن مدن الساحل السوري على البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر ثم إلى شرق أفريقيا وعمان والهند. وكان هذا الخط يواجه عقبةً صعبةً عند برزخ السويس، إذ كانت البضائع تُفرغ في نقاط محدّدة، ثم تُحمل على ظهور الجمال، لتسير القوافل في خط موازٍ تقريباً لخط القناة اليوم، ثم يُعاد تحميلها مجدّداً في السفن التي تمخر البحر الأحمر نحو باب المندب، ثم إلى محطاتها الأخيرة. ومع اكتشاف فاسكو دي غاما طريق رأس الرجاء الصالح، فَقَد خط التجارة ذاك بعض مزاياه التفضيلية، وهبط الدخل الكلي المصري إلى مستوىً متدنٍ جداً، وفقدت مصر قدراً من أهميتها الاستراتيجية. وكثيراً ما تردّدت آنذاك أفكارٌ عن ربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر، لكن تلك الأفكار كانت خياليةً الى حد بعيد. ومع الحملة الفرنسية على مصر التي قادها نابليون بونابرت في سنة 1797، عادت تلك الفكرة إلى النقاش، إلى أن تبلورت في 1832، فاقترح المهندس فرديناند دي ليسبس (القنصل الفرنسي العام في الإسكندرية) على الأمير سعيد بن محمد علي مشروعاً يتضمن بناء ميناء على المتوسط (صار اسمه بور سعيد نسبة إلى الأمير
سعيد نفسه)، ثم شقّ قناةٍ من بور سعيد إلى البحيرات المرّة، وقناة أخرى معاكسة من السويس إلى البحيرات أيضاً، فتلتقي هاتان القناتان ليشكلا معاً قناةً واحدةً، تتيح عبور السفن التجارية من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر وبالعكس.
وافق الأمير سعيد على هذا المشروع، بعد نقاش مستفيض، وأصدر فرماناً في هذا الشأن في 30/11/1854، وأسّس لهذه الغاية "الشركة العالمية لقناة السويس" في 5/1/1857. وفي 1859، بدأ الحفر في الاتجاهين بإشراف دي ليسبس، واستُخدم نحو مليون عامل مصري في عمليات الحفر والطمر والتدعيم. وفي 15/8/1869، أي بعد عشر سنوات، أعطى دي ليسبس الإشارة، فانفجر العائق الترابي الذي ظل يفصل مياه البحر عن مياه البحيرات المرّة حتى تلك اللحظة. والتقت المياه من الجانبين في مشهدٍ أسطوري، الأمر الذي جعل دي ليسبس يقول: "منذ خمسة وثلاثين قرناً، انحسرت مياه البحر الأحمر بأمر من النبي موسى، وها هي اليوم تعود إلى مجراها بأمرٍ من عاهل مصر". وهكذا، افتُتحت قناة السويس التي أتاحت لثلاثمئة مليون أوروبي (عدد سكان أوروبا آنذاك) أن يتصلوا بسهولة بسبعمئة مليون آسيوي (عدد سكان آسيا آنذاك). وكان الخديوي إسماعيل ذهب بنفسه إلى أوروبا، لدعوة ملوكها وأمرائها إلى حفل الافتتاح في 16/10/1969، والذي حضره 900 نبيل أوروبي، بينهم الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون بونابرت، والكاتب النرويجي هنريك إبسن والشاعر الفرنسي تيوفيل غوتييه والمثّال الفرنسي جان ليون جيروم. وكتب أوغست مارييت أوبرا عايدة للمناسبة، وتولى الموسيقار غيسيبي فيردي تلحينها، لكنه لم يتمكّن من إنجاز اللحن إلا بعد الافتتاح. 
 
لو أنها رُدمت
عذّبت هذه القناة أصحابها جميعاً: العمال الذين حفروها بشروطٍ أقرب الى السخرة، ومات الألوف منهم في أثناء الحفر، والحكام الذين رغبوا في أن تمنحهم تلك القناة المجد والعظمة والأموال، والفرنسيون والإنكليز الذين تطلعوا إلى السيطرة على طريق الهند ومصر ومحيطها الجغرافي. وكان الأمير سعيد بن محمد علي اشترى أسهماً في شركة قناة السويس، تفوق قيمتها قدرة الخزانة المصرية على الاكتتاب. وعندما آلت الخديوية إلى الأمير إسماعيل الذي سميت مدينة الإسماعيلية على اسمه، وجد أن مصر باتت في وضع مالي صعب جداً. ومع ذلك استدان أموالاً كثيرة لتمويل الاحتفالات الباذخة في ليلة افتتاح القناة، واضطر إلى رهن محصول القطن ضمانةً لسداد الدين. وكان القطن إحدى أهم السلع الاستراتيجية في الاقتصاد المصري، لكن الحرب الأهلية الأميركية توقفت في تلك الفترة، وعاد القطن الأميركي إلى أسواق العالم، الأمر الذي أدّى إلى هبوط أسعاره، فازداد الوضع الاقتصادي لمصر سوءاً. وهنا، اضطر الخديوي إسماعيل في سنة 1875 إلى بيع بريطانيا الأسهم المصرية في شركة قناة السويس بأربعة ملايين جنيه إسترليني. وجرّاء ذلك، أُرغم اسماعيل على الاستقالة، وتسلم حكم مصر بدلاً منه الخديوي توفيق الذي كان مطواعاً للسياسة البريطانية. ولعل ذلك كان السبب الرئيس في تمرّد الجيش المصري في سنة 1882، بقيادة الضابط أحمد عرابي، غير أن الجيش البريطاني انتصر على أحمد عرابي في معركة التل الكبير في تلك السنة، وصارت مصر مستعمرةً بريطانية، ولم تجلُ عنها القوات البريطانية إلا بعد توقيع اتفاقية الجلاء (1954) وتحديداً في 1956 عقب العدوان الثلاثي.
احتلت قناة السويس في مخيلة المصريين صورة مرادفة للعبودية والاحتلال الأجنبي، وكان الذهن ينصرف، حين يذكر اسمها، إلى الديون، وإلى الإشراف الدولي على مالية مصر وسياستها. لذلك، لم يكن غريباً أن يقترح أحمد عرابي نفسه ردم القناة، لكي تتخلص مصر من مطامع بريطانيا وغيرها. ولعل من غرائب المصادفات أن تظهر في الإسماعيلية، وهي إحدى مدن القناة، الحركة الأكثر كراهيةً للتحديث والحداثة، أي جماعة الإخوان المسلمين التي أعلنت تأسيسها في 1928؛ فهي نشأت ردة فعل على الليبرالية المصرية التي انتعشت بقوة بعد ثورة 1919.


العدوان الثلاثي
تحوّلت مصر بعد ثورة يوليو 1952 إلى انتهاج سياسةٍ تختلف تماماً عن سياسات القصور وصراعاتها وعن إملاءات الإنكليز. وجعلها النهج التحرّري الجديد تحتل مكانة كبرى في العالم العربي، خصوصاً بعد السير في دعم حركات التحرّر العربية في الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، علاوة على حركات التحرّر الأفريقية. وفي الوقت نفسه، راحت مصر ترعى عمليات الفدائيين في قطاع غزة التي كانت تشن ضد المواقع الإسرائيلية في جنوب فلسطين. وكان العقيد المصري مصطفى حافظ الذي اغتالته إسرائيل بعبوة ناسفة في خان يونس في 11/7/1956 مكلفاً رعاية هؤلاء الفدائيين الذين اشتهر من بينهم لاحقاً خليل الوزير (أبو جهاد).
أثارت السياسة الثورية والمستقلة التي انتهجها جمال عبد الناصر حنق بريطانيا التي أيقنت أن مصر صارت خارج إرادتها، كما أثارت غضب فرنسا التي لم تتورّع عن ارتكاب المجازر المتمادية، لكيلا تفقد السيطرة على الجزائر التي أعلنت للتو ثورتها التحرّرية (1954). وعلى غرارهما، كانت إسرائيل تتحرّق للانتقام من النظام المصري، فبادرت، في سنة 1954، إلى تفجير بعض المصالح الأميركية في القاهرة، لتخريب العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، وخلخلة ركائز النظام الجديد في ما عرف آنذاك بـِ "فضيحة بنحاس لافون". وهكذا راحت ثاراتٌ كثيرةٌ تتجمع في وجه مصر، لتؤدي إلى حرب السويس في 1956. وكانت ليبيا وقعت اتفاقاً عسكرياً مع أميركا في 19/9/1954 منحتها بموجبه قاعدة عسكرية في طرابلس، وهي قاعدة هويلس. وفي السنة نفسها، وقعت تركيا وأميركا اتفاقاً للدفاع المشترك. وحاول رئيسا وزراء العراق وبريطانيا، نوري السعيد وأنطوني إيدن، الضغط على جمال عبد الناصر للانضمام إلى حلف بغداد فلم يفلحا. وفي هذه الأحوال، شنت إسرائيل حملة عسكرية على قطاع غزة في 28/2/1955 راح ضحيتها 32 جندياً مصرياً. وحاول عبد الناصر، بعد تلك الغارة، أن يحصل على سلاح دفاعي أميركي، فلم تتجاوب الولايات المتحدة معه، فأيقن، حينذاك، أن محاولات تطويق مصر بدأت من ليبيا في الغرب ومن العراق في الشرق، ومن تركيا في الشمال التي كانت مناوراتها العسكرية على الحدود مع سورية لا تتوقف، وأخيراً من إسرائيل.
أقدم عبد الناصر، في خطوةٍ جبارةٍ بمقاييس تلك الأيام، على التفاهم مع الاتحاد السوفياتي، بوساطة رئيس الوزراء الصيني، شو إن لاي. وأدى ذلك إلى توقيع اتفاقية الأسلحة التشيكية في 26/9/1955. وبهذا التفاهم، تغيرت قواعد اللعبة الدولية في المنطقة؛ فبدلاً من أن يكون حلف بغداد السد الذي سيقف أمام تمدّد الاتحاد السوفياتي إلى الشرق الأوسط، ها هو الاتحاد السوفياتي يقفز مباشرةً فوق حلف بغداد، ليصبح في قلب الشرق الأوسط، الأمر الذي أثار هلع إسرائيل وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية معاً. وقد استغل الرئيس الأميركي، ايزنهاور، تلك الأوضاع المربكة، ليقايض تمويل البنك الدولي لمشروع السد العالي في أسوان بالسلام مع إسرائيل. ولما رفض عبد الناصر هذه المقايضة، سحبت الولايات المتحدة وبريطانيا والبنك الدولي العرض السابق لتمويل السد العالي، فبادر عبد الناصر إلى إعلان تأميم قناة السويس في 26/7/1956.
وفي 29/10/1956، أي قبل ستين عاماً، بدأ العدوان الثلاثي على مصر الذي انتهى بخيبةٍ سياسيةٍ لدول العدوان. وجرّاء ثبات جمال عبد الناصر في وجه العدوان، ثم الشروع في مقاومته في مدن السويس، وكذلك الإنذار السوفياتي المشهور الذي أصدره الرئيس السوفياتي، نيكولاي بولغانين، وهدّد فيه بضرب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بالصواريخ العابرة للقارات، أصدرت الأمم المتحدة في 7/11/1956 قراراً ينصّ على الوقف الفوري للعدوان، فقبلته الدول الثلاث المعتدية، بعدما اكتشفت أن إيزنهاور لم يكن متحمّساً لإعادة النفوذ البريطاني والفرنسي إلى شرق المتوسط، وهو راغب في ملء الفراغ الناجم عن انسحاب بريطانيا وفرنسا من المنطقة بالحضور الأميركي المباشر. وبناء على ذلك كله، بدأ انسحاب القوات الانكليزية والفرنسية من بورسعيد في 19/12/1956، وأنهت القوات الإسرائيلية جلاءها عن قطاع غزة في 6/3/1957. وهكذا، جلت القوات المعتدية عن مصر وحدودها، من دون تحقيق أي مكاسب سياسية أو استراتيجية، وأصبحت مصر حرّة تماماً بعد 74 عاماً من الوجود العسكري البريطاني على أراضيها.

جول جمال
ولد الشهيد جول جمال في قرية المشتاية السورية في 1/4/1932، ونشأ في منزلٍ كان ربه يوسف مقاوماً للاستعمار الفرنسي في سورية. وحين أنهى جول جمال المرحلة الدراسية الثانوية في 1953، التحق بكلية الآداب في جامعة دمشق، وتقدّم، في الوقت نفسه، إلى الكلية الحربية. ولما جرت الموافقة على التحاقه بالكلية الحربية، ترك الدراسة الجامعية، وأُرسل إلى الكلية البحرية في الإسكندرية في سبتمبر/ أيلول 1953. وقد تخرج في الكلية البحرية في مايو/ أيار 1956، وجاء الأول على دفعته، ثم تابع التدريب على زوارق الطوربيد بعد تخرجه. وفي تلك الأثناء، اندلعت معارك العدوان الثلاثي على مصر، فطلب من قائده، جلال الدسوقي، أن يلتحق بالدوريات القتالية لتحديد موقع البارجة الحربية الفرنسية "جان بار"، فرفض قائده في البداية، ثم تحت إلحاح ضباطٍ سوريين، أُلحق بمجموعة من ثلاثة زوارق طوربيد. وكان يقود الزورق الثاني الضابط البحري السوري، نخلة سكاف، ويقود الثالث ضابط مصري. وحين تمكنت المجموعة من تحديد موقع البارجة الفرنسية، هاجموها بالطوربيد، وصدمها جول جمال مباشرة، فأعطبها واستشهد جرّاء غارات الطيران الفرنسي على زوارق مجموعته.
ولا نجازف في القول إن جول جمال كان أول استشهادي سوري في معارك المواجهة ضد الاستعمار، وهو يعيد إلى الأذهان تجربة السوري سليمان الحلبي الذي قتل الجنرال الفرنسي
جان باتيست كليبر نائب نابليون في مصر بالخنجر في حديقة قصر محمد الألفي في القاهرة في 15/6/1800، انتقاماً منه لقصفه حي بولاق بالمدفعية من جبل المقطم. وقد حوكم سليمان الحلبي بموجب القانون الفرنسي، وعوقب بموجب القانون المملوكي، فأُعدم بالخازوق فوق تل العقارب في القاهرة في 28/6/1800.
بجلاء القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية عن مصر، أصبح جمال عبد الناصر البطل المبجل للعرب قاطبة. وظهر تعلق العرب به إبّان معارك السويس على وجه الخصوص، ولا سيما في سورية، حينما نسف المقدم الهيثم الأيوبي، بتكليف من عبد الحميد السراج، محطات ضخ البترول التابعة لشركة نفط العراق (IPC)، فتوقف البترول عن التدفق إلى مصفاة طرابلس في لبنان. والهيثم الأيوبي ضابط في الجيش السوري وعضو في حركة القوميين العرب، وصار في ما بعد المسؤول العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
امتلك عبد الناصر شجاعةً سياسيةً لا ريب فيها، وهي مبادرته إلى تأميم قناة السويس في الوقت الذي كانت التجربة المجهضة لمحمد مصدق في إيران سنة 1953 ماثلة في الأذهان. على أن زعامته انتزعها إبّان العدوان الثلاثي، فهو رفض الإنذار الثلاثي الانكليزي – الفرنسي – الإسرائيلي، ودعا إلى المقاومة في بور سعيد. وكانت الذاكرة المصرية طرية، ولم تنسَ الإنذار الإنكليزي للملك فاروق في 4/2/1942 عندما حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين بالدبابات، ثم دخلت القصر بالقوة. وهناك، أملى اللورد كيلرن على الملك قراره تكليف مصطفى النحاس تأليف وزارة جديدة. وشتّان بين مَن أذعن للإنذار الأول ومَن رفض الإنذار الثاني.
ما وقع في 1956 في مصر كان المقدّمة التي أدت إلى وحدة سورية ومصر في 1958. واللافت أن جمال عبد الناصر ما إن تولى قيادة مصر، حتى سارع إلى محو اسم مصر وتذويبه في "الجمهورية العربية المتحدة". وهذه شجاعةٌ تاريخيةٌ فائقةٌ، لا يقدم عليها إلا القادة التاريخيون. وفي أي حال، صنع الوحدة السورية – المصرية عسكريون سوريون خائفون من السقوط في أحضان حلف بغداد، مع عسكري مصري لامع، هو جمال عبد الناصر، كان معجباً بعسكري سوري فاشل، هو أديب الشيشكلي.