الاستراتيجية الروسية في سورية: التفاوض في الميدان

12 فبراير 2016

دمار خلفه قصف روسي في حلب (8 فبراير/ 2016/الأناضول)

+ الخط -
بالتزامن مع بدء التحضير لاستئناف مفاوضات جنيف لحلّ الأزمة السورية، المتوقفة منذ مطلع عام 2014، شنّ النظام السوري وحلفاؤه حملةً عسكرية واسعة، استهدفت أرياف حمص، وحلب، واللاذقية، ودرعا. ونتيجة عوامل مختلفة، أبرزها القصف الجوي الروسي المكثف، وتقلُّص الدعم الخارجي لفصائل المعارضة، حققت قوات النظام اختراقاتٍ عسكرية مهمّة، على الرغم من خسائرها البشرية الكبيرة، وأعادت رسم خرائط السيطرة على مناطق تتمتع بأهمية إستراتيجية لأطراف الصراع. ومع أنّ تصعيد النظام عملياته العسكرية بات مشهدًا مألوفًا قبيل انطلاق أيّ عملية تفاوضية، فإنّ هدفه، في هذه المرحلة، يتجاوز مسألة تعزيز الموقع التفاوضي إلى محاولة رسم ملامح "الحلّ السياسي"، عبر فرض جملةٍ من الوقائع الميدانية. يأتي هذا، مع دخول الصراع مرحلة حاسمة ودقيقة؛ إذ تضع روسيا ثقلها لكسر حالة الاستعصاء العسكري، وقلب موازين القوى لمصلحة حليفها، مستفيدةً من حالة تسليم أميركي بسياستها في سورية.


أهداف العمليات العسكرية أخيراً
تهدف العمليات العسكرية التي يشرف عليها الروس، ويغطونها جواً، وتقوم بها قوات النظام، مدعومةً بميليشيات تديرها إيران، في شمال سورية وجنوبها، إلى تحقيق جملة من الأهداف؛ أهمّها:

1.إغلاق "كوريدور" أعزاز
بعد أن تمكّنت قوات حماية الشعب الكردية (YPG) التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD)، والتي تشكّل عماد ما تسمّى "قوات سوريا الديمقراطية" التي يتفق الأميركان والروس على دعمها وإسنادها جواً، من إحكام سيطرتها على معظم الحدود التركية - السورية في المنطقة الواقعة شرق نهر الفرات، لم يتبقّ من هذه الحدود، من جهة غرب النهر، إلّا شريط بطول 160 كيلومتراً تقريباً، وتتقاسم السيطرة عليه ثلاث قوى، هي: تنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر على نحو 98 كيلومتراً منه في المنطقة الممتدة بين جرابلس وأعزاز، بينما تسيطر فصائل المعارضة السورية على نحو 13 كيلومتراً من الحدود الممتدة بين شرق أعزاز وعفرين، وتسيطر وحدات حماية الشعب الكردية على بقية الشريط الحدودي في منطقة عفرين، وصولًا إلى الحدود السورية مع لواء اسكندرون (محافظة هاتاي التركية).
يتجلّى الهدف الروسي من العمليات العسكرية التي تستهدف فصائل المعارضة السورية، في هذه المرحلة الدقيقة من الصراع، في قطع خطوط الإمداد الخارجية لهذه الفصائل. وتتطلب ترجمة هذا الهدف في الشمال السوري إغلاق ما يسمّى "كوريدور" أعزاز الذي تمرّ عبره معظم إمدادات فصائل المعارضة السورية الناشطة في حلب وريفها. ويمثّل هذا في المبدأ الإستراتيجية نفسها التي تتّبعها واشنطن في مواجهة تنظيم الدولة؛ إذ يتولى الأكراد المدعومون أميركياً عملية "قضم" الشريط الحدودي الذي يسيطر عليه داعش مع تركيا، في مسعى إلى تخليصه منه بالكامل، ومن ثم حصره داخل الأراضي السورية، تمهيدًا للقضاء عليه.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، أمّنت روسيا غطاءً جويًّا لعملية عسكرية كبيرة في ريف حلب الشمالي، استطاعت فكّ الحصار المفروض على بلدتي نبل والزهراء، ذاتي الأغلبية الشيعية الموالية للنظام، وإغلاق "الكوريدور" الواصل بين مدينة أعزاز على الحدود السورية التركية والقسم الذي تسيطر عليه المعارضة من مدينة حلب، حيث أخذت تخضع لحصار مطبق من ثلاث جهات معادية: قوات النظام في الريفين الجنوبي والشمالي، وتنظيم الدولة في الريفين الشرقي والشمالي، وقوات الحماية الكردية من جهة عفرين.
في الوقت نفسه، كانت "قوات سوريا الديمقراطية" باشرت في الأسابيع الأخيرة، تحت غطاء ناري كثيف من الطائرات الروسية، التقدّم من عفرين باتجاه الشرق، مشددةً الخناق على طريق حلب - أعزاز، على حساب قوى المعارضة السورية التي تواجه داعش. وفي 4 فبراير/ شباط، تمكّنت وحدات من هذه القوات من فرض سيطرتها على بلدتين شمال نبل والزهراء، هما الزيارة والخربة. وفي 10 فبراير/ شباط، تمكّنت فصائل تطلق على نفسها اسم "جيش الثوار" تنضوي تحت راية "قوات سوريا الديمقراطية"، من السيطرة على مطار منغ الإستراتيجي، الواقع في ريف حلب الشمالي، على طريق حلب - أعزاز. والأرجح أن يستمر الأكراد في محاولة التقدم، شمالًا وشرقاً، على حساب قوات المعارضة السورية باتجاه الحدود مع تركيا، مستفيدين من غطاء حماية تؤمّنه لهم الطائرات الروسية، ما يسمح للنظام بالتركيز على تعزيز مواقعه التي سيطر عليها، أخيراً، حول حلب، ما يعني أنّ ثمة تقسيمَ عمل واضحاً على هذه الجبهة بين قوات النظام وميليشياته وقوات حماية الشعب الكردية.

أضف إلى ذلك، أنّ نجاح قوات النظام في فصل ريف حلب الشمالي إلى قسمين، وعزله عن تركيا، وفي فكّ الحصار عن مطار كويرس، والتمدد في ريف حلب الشرقي بالقرب من مدينة الباب التي يسيطر عليها تنظيم الدولة، من شأنه أن يحدّ من إمكانية حصول تدخّل عسكري بري مستقبلاً، تركيًا كان أو عربيًا (سعودي) ضد تنظيم الدولة، كونه سيؤدي إلى مواجهة مباشرة مع النظام وحلفائه. وهو ما جعل ردّة فعل واشنطن التي تتحفظ على أيّ عمل عسكري، يمكن أن يؤدي إلى صدام مع قوات النظام السوري، فاترة إزاء الطرح السعودي، أخيراً، بخصوص إمكانية مشاركة قوات سعودية في عمليات برية تحت قيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة في سورية؛ إذ رأى وزير الدفاع الأميركي، أشتون كارتر، في اجتماع لوزراء دفاع حلف الأطلسي في بروكسيل، الخميس الماضي، أنّ "هناك طرقًا أخرى غير التدخّل البري لمواجهة تنظيم الدولة يمكن للسعودية ودول خليجية أخرى أن تسهم بها". وتذهب معظم الترجيحات، بخصوص الإستراتيجية التي يشرف على تنفيذها الروس، إلى قيام قوات النظام بعملية عسكرية انطلاقاً من مدينة خان طومان، جنوب غرب حلب، باتجاه إدلب، وصولًا إلى معبر باب الهوى، لقطع طريق الإمداد الأخير عن القسم الذي تسيطر عليه المعارضة من مدينة حلب، واستكمال حصارها. وفي الأثناء، سيسعى النظام وحلفاؤه إلى فكّ الحصار عن بلدتي كفريا والفوعة، وهما آخر بلدتين مواليتين، تحاصرهما المعارضة في ريف إدلب.

2. السيطرة على الحدود مع الأردن
لا تقلّ تطورات الجبهة الجنوبية أهميةً وتأثيراً عمّا يجري في الشمال؛ إذ يعدّ الوصول إلى معبر نصيب مع الأردن الهدف الأبرز لحملة النظام البرية في ريف درعا. ومن خلالها، يحاول النظام أن يستعيد أحد رموز السيادة المثلومة، وهي المعابر الحدودية مع دول الجوار، في محاولة لتعزيز صورته في أنّه يستعيد السيطرة تدريجيًا على البلد. أمّا الهدف الآخر الأبعد مدىً، فهو محاولة السيطرة على الجزء الأكبر من الشريط الحدودي مع الأردن من جهة محافظة درعا، ومن ثم قطع تواصل المعارضة في هذه الجبهة مع الخارج. 
تجنّبت روسيا، في بداية تدخّلها العسكري في سورية، قصف فصائل المعارضة في المنطقة الجنوبية، مركزة جهدها على الجبهة الشمالية المتاخمة للحدود مع تركيا. لكن تحييد هذه المنطقة لم يستمرَّ طويلاً؛ إذ شرعت الطائرات الروسية في قصفها أواخر ديسمبر/كانون أول 2015 وساندت قوات النظام في استعادة بلدة الشيخ مسكين الإستراتيجية، ثم عتمان التي سيطر عليها النظام أخيراً، الأمر الذي سيمكّنها، على الأرجح، من إعادة فتح الطريق الدولي بين دمشق وعمّان. ومع أنّ الغرب يعوّل على دورٍ مستقبلي لفصائل الجبهة الجنوبية للاندماج في الجيش النظامي ومكافحة التنظيمات المتطرفة، فقد توقّف تقديم المساعدات العسكرية لهذه الفصائل، كما علّقت غرفة العمليات العسكرية في الأردن، المعروفة باسم "الموك"، مختلف أنشطتها، في خطوةٍ بدت وكأنّها موافقة ضمنية على القصف الروسي. ويذهب أكثر التوقعات إلى أنّ النظام سيحاول، في الفترة المقبلة، التركيز على استرداد مدن الحراك وداعل وابطع، في محاولةٍ لاستعادة التواصل بين محافظتَي درعا والسويداء.


3. بناء معارضة على مقاس الحلّ الروسي
يلاحظ المتمعّن في خريطة الغارات الروسية، خلال الشهر الماضي، تركّزها في ثلاث مناطق رئيسة، ريف اللاذقية، وريف حلب الشمالي، وريف درعا. وهي مناطق لا تخلو من مقاتلي تنظيم الدولة فقط، بل يندر فيها انتشار جبهة النصرة أو فصائل أخرى ذات توجّه سلفي جهادي. وبناءً عليه، يتصدر إضعاف فصائل المعارضة المعتدلة ومحاصرتها أولويات الإستراتيجية العسكرية الروسية، لإجبارها على قبول طروحاتها عن الحل، وفي الوقت نفسه، فرض ثنائية "النظام والإرهاب" واقعاً ميدانياً وسياسيًا، بما يسمح بإعادة تعريف المعارضة المعتدلة؛ بحيث تصبح "قوات سوريا الديمقراطية" الطرف المعترف به دوليًاً، بوصفه المكون الرئيس للمعارضة السورية. وجدير بالذكر أنّ روسيا قصفت، أخيراً، فصائل معارضة، كانت تقاتل تنظيم الدولة في ريف حلب الشمالي، وهو سلوكٌ لا يمكن تفسيره إلّا في إطار رغبة موسكو في السماح لقوات الحماية الكردية بالتمدد خارج عفرين، للحلول محلّ فصائل المعارضة في السيطرة على ممر أعزاز، وتحقيق تماسّ مباشر مع تنظيم الدولة، تمهيدًا لانتزاع الشريط الحدودي الذي يسيطر عليه مع تركيا، ومن ثم تحقيق ترابط جغرافي بين شطرَي "الإدارة الذاتية"، غرب نهر الفرات وشرقه على طول الشريط الحدودي مع تركيا. وبذلك، تقطع روسيا ومحميتها الحكومة السورية الطريق على أيّ إمكانية لقيام فصائل المعارضة، فضلاً عن قوات تركيّة أو سعودية أو غيرها، بالسيطرة على الأرض التي يخليها داعش، من خلال دعم سيطرة الأكراد عليها.

خاتمة
خلال الجولة الأولى "المتعثرة" من مفاوضات جنيف، بدَا واضحاً أنّ النظام وحلفاءَه كانوا يسعون إلى تأمين غطاء سياسي، يسمح لهم بحسم عسكري في المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة، بما يمنحهم القدرة على فرض حلول سياسية، تلائمهم في أثناء جولات المفاوضات المقبلة. مع ذلك، وعلى الرغم من الاختراقات التي حقّقها بمعية حلفائه، في الأسابيع الأخيرة، من غير المحتمل أن يتمكّن النظام من تحقيق حسمٍ عسكري شامل، لأنّ التكلفة البشرية التي تكبَّدها في محاولاته إطباق الحصار على حلب، تفوق قدرته على تعويض الخسائر، إضافةً إلى أنّ القوة النارية الكثيفة التي تستخدمها روسيا، وعلى الرغم من فعاليتها، أثبتت أنّها غير كافية للسماح للنظام بالسيطرة على الأرض، بعد قصفها وانسحاب قوى المعارضة منها. لذلك، من المرجح أن يركّز النظام وحلفاؤه، في جولات المفاوضات المقبلة، على نقطةٍ وحيدة في قرار مجلس الأمن 2254، هي وقف إطلاق النار؛ لأنّ وقفاً شاملاً لإطلاق النار فقط هو ما يمكن أن يسمح للنظام بتثبيت وجوده في المناطق التي سيطر عليها أخيراً؛ فهذه المناطق شديدة العداء له، ولن يكون بمقدوره أن يستمر في التمسّك بها، إلّا بوقف العمليات العسكرية فيها.