تأخر الروس قليلاً في فهم خصوصية معركة قوات النظام وفصائل المعارضة الممتدة لأربعة أشهر، إذ كانوا يتصورون في البدء بأن المعركة ستكون سهلة. بالتالي، عمدوا إلى فتح ست جبهات في وقت واحد، بدأت في حماة ثم حمص ثم اللاذقية ثم حلب والقنيطرة والغوطة الشرقية بريف دمشق، وسرعان ما أثبتت قوات المعارضة قدرتها على التصدّي والصمود، وقلبت معطيات المعركة في حماة رأساً على عقب، عندما سيطرت على مدينة مورك الاستراتيجية، واستعادت جميع المناطق التي خسرتها لصالح النظام وروسيا.
هدأت حدة المعارك قليلاً بعد نحو شهر ونصف، ثم ما لبث أن استدرك الروس ما فاتهم، وبدا أن الاستراتيجية الجديدة محددة أكثر. وبدأ النظام السوري بعد ذلك فتح معارك نوعية، تستهدف قطع طرق الإمداد والسيطرة على الطرق الرئيسية، بهدف شلّ قدرة المعارضة وخنقها واستنزافها من جهة، واستغلال عامل الوقت جيداً قبل الشروع بوقف إطلاق النار وفق القرار 2254، الذي يحمل خارطة الانتقال السياسي في سورية، عندها يستطيع النظام القول إنه يتحكّم بالمراكز الرئيسية في سورية، عدا المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، و"جبهة النصرة"، وبالتالي تحويل الخطر عنه وفق القرار نفسه، إلى التصدي لمحاربة الإرهاب.
ولتحقيق هذا الهدف، بدأت قوات النظام السوري مدعومة بالطيران الروسي وحلفاء عراقيين وأفغان ولبنانيين، أول حملاتها العسكرية في ريف حلب الجنوبي مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول، بهدف قطع طريق دمشق – حلب الرئيسي. وبعد أسابيع من صمود المعارضة، تمكن النظام من السيطرة على بلدة الحاضر وتلة العيس، التي تكشف الأوتوستراد الدولي. ونظراً لاحتدام المعارك، فقد عدّل الاتجاه قليلاً لضمان المدخل المؤدي إلى مدينة حلب، ليسيطر على طريق بلدة خان طومان، ثم على البلدة التي تقع على بعد عشرة كيلومترات جنوب غربي المدينة، وتُعدّ بوابة رئيسية نحو ريف حلب الغربي والشمالي. وقد تمّ ذلك بعد نحو 60 غارة جوية روسية خلال ساعات فقط، لتقطع قوات النظام طريق الإمداد الرئيسي لفصائل المعارضة، وفي حال اقترابها من بلدة الزربة، فإنها تقترب من طريق دمشق ــ حلب.
اقرأ أيضاً: النظام السوري يعتقل عضوين من "الهيئة العليا للمفاوضات"
في هذه الأثناء، كانت قوات النظام تخوض أعنف حملة عسكرية شهدها ريف اللاذقية الشمالي منذ بدء الثورة السورية (2011)، بدعمٍ جوي روسي مكثّف، وبري من مليشيات جنّدها النظام خلال فترات ماضية، مثل "كتائب البعث"، و"صقور الصحراء"، و"الدفاع الوطني"، و"المقاومة السورية لتحرير لواء اسكندرون"، ومليشيا "درع الساحل"، بالإضافة إلى اللبنانيين والعراقيين.
ونجحت قوات النظام في السيطرة على تلال استراتيجية عديدة، كتلال جب الأحمر وجبل عرافيت وجبل النوبة وجبل غزالي، الذي يُعتبر ثاني أعلى نقطة في جبل الأكراد، بعد قمة النبي يونس. ويُشرف على مساحة واسعة من جبلي الأكراد والتركمان إلى الحدود التركية. كما يُشرف على قرى المغيرية وكفر عجوز وكفردلبا، المناطق المُطلّة على بلدة سلمى.
أما في جبل التركمان، فقد سيطرت قوات النظام على أعلى قمة وهي جبل زاهية، وتعني سيطرة النظام عليه أنّ منطقة جبل التركمان، بما فيها الحدود التركية، ومعبر اليمضية، ومخيمات الحدود، ستصبح في مرمى نيران قوات النظام، ويبلغ ارتفاع الجبل 1154 متراً. وسيطرت قوات النظام بالإضافة إلى القمة الاستراتيجية، على قرية عطيرة شمالاً، وجبل الكوز غرباً.
والأهم من ذلك، ما كانت قد كشفته "العربي الجديد" سابقاً عن محاولات النظام الوصول إلى قمة برج القصب في جبل التركمان، بعد سيطرتها على قرية الدغمشلية وجبل الزويك. وهو ما فسّر سيطرتها أولاً على جبل النوبة الاستراتيجي في جبل الأكراد، المحرّر منذ نحو أربع سنوات. ويُعتبر جبل النوبة خط الدفاع الرئيسي عن مدينة سلمى، ويبعد عنها نحو 7 كيلومترات، ويقع أيضاً على بعد كيلومترات قليلة من الطريق الرئيسي وبرج القصب.
وقضت الخطة بسيطرة النظام على النوبة وجبل الزويك وقرى الدغمشلية ودير حنا وكفردلبا وجبل دورين، بهدف الضغط على المعارضة من الجهتين الشرقية والغربية، للوصول إلى برج القصب، الهدف الاستراتيجي الأبرز له. ونجح بعد تمهيد ناري عنيف، استُخدمت فيه القذائف الصاروخية والمدفعية ونحو 70 غارة جوية روسية، في ضمان البرج وقرية القصب، يوم الثلاثاء، وهو ما يعني الإشراف على طريق اللاذقية ـ حلب، وفصل جبل الأكراد عن التركمان، وبالتالي قطع الطريق الأهم الذي تسلكه قوات المعارضة للتنقل بين الجبلين.
في الإطار ذاته، صعّدت قوات النظام قبل ثلاثة أيام حملة عسكرية في الجبهة الجنوبية بدأتها قبل شهر ونصف، عبر الدفع بالمئات من قواتها والمليشيات التي تساندها للسيطرة على مدينة الشيخ مسكين بريف درعا الشمالي، القريبة من أوتوستراد دمشق ـ درعا. ونفّذت الطائرات الروسية، في اليوم الأول للحملة، نحو 70 غارة وأكثر من 20 هجوماً إضافياً مماثلاً، مكّنت النظام من إحراز تقدمٍ شمالي المدينة.
وتُعتبر الشيخ مسكين من أهم مدن حوران، ورابع أكبر مدينة من حيث المساحة، وتشكل عقدة مواصلات تربط عدداً من المحافظات السورية بالمنطقة الجنوبية، دمشق، درعا، القنيطرة، وتبعد عن مركز المحافظة نحو 22 كيلومتراً. وتعني السيطرة عليها، التحكّم في شبكة طرق مواصلات وإمدادات حيوية بين دمشق شمالها، ومركز محافظة درعا جنوبها، إضافة لوقوعها بين محافظة القنيطرة غرباً والسويداء شرقاً.
اقرأ أيضاً تركيا: تأشيرة دخول السوريين تشمل القادمين من بلد ثالث