الاستخبارات والرئاسة في الجزائر

13 ديسمبر 2015

بوتفليقة: العلاقة بين الاستخبارات والرئاسة يجب تصحيحها (15يونيو/2015/Getty)

+ الخط -
عبر 264 كلمة في رسالة باللغة الفرنسية، تحدث الفريق المحال على التقاعد ومسؤول المخابرات الجزائرية السابق، محمد مدين، المدعو توفيق. وجاء كلامه العلني، أول مرة منذ ربع قرن، دفاعا عن زميله وصديقه اللواء حسان، (اسمه الحقيقي عبد القادر آيت واعرابي) المدير السابق لفرع مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات الجزائرية، في محاكمة جرت في جلسة مغلقة بتهمة رسمية مفادها "إتلاف وثائق ومخالفة التعليمات العسكرية".
حوكم اللواء حسان في وهران، أخيراً، ودانته محكمة عسكرية بخمس سنوات سجناً نافذاً. حُكْمٌ وصفه "توفيق" بأنه قاسٍ، وأخرجه ذلك عن صمته الذي بدا للجزائريين وكأنه أبدي. تعاقب خمسة رؤساء جمهورية على قصر المرادية: الشاذلي بن جديد، محمد بوضياف، علي كافي، اليامين زروال، عبد العزيز بوتفليقة. وطوال كل هذه المراحل، بقي من كان يوصف بأنه صانع الرؤساء كتوماً لا ينبس ببنت شفة. استقال بن جديد أو أقيل، واغتيل بوضياف أمام الملأ في دار الثقافة في مدينة عنابة. تهاوت البلاد في مستنقع العنف، وخرجت منه بعد سقوط أكثر من 200 ألف ضحية، وبقي الجنرال صامتاً. تعاظمت صورته الغائبة عن مخيلة الناس، وتحدثت الألسنة عنه بالإشارة طوراً، ومواربة أحياناً، ولم يجرؤ أحد على ذكر اسمه جهراً، فذاك إن حدث خطأ كان سبباً لقدوم زوار الفجر.
وصَفَ مدين الحكم على زميله "بالظلم"، فزاد هذا التوصيف طلاسم أخرى على أخبار القضية الشحيحة، فمحاكمة اللواء حسان تمت في جلسات مُغلقة ومن وراء جُدُرْ، وما رددته الصحافة من أحاديث حولها لا يعدو أن يكون سَقْط أخبار، لا يُغني ولا يُسمن من جوع. ذكرت الصحف أن الأمر يتعلق بخلل استخباراتي في معالجة قضية الهجوم الذي تعرّض له مصنع الغاز في تقنتورين (جنوب شرق الجزائر) في يناير/ كانون الثاني 2013 وأسفر عن مقتل 40 أجنبياً، ولم تزد .. فبقي الملف غامضاً غموض حسان وتوفيق، وغموض صراع العصب والسياسة في الجزائر. وإن كانت جريدة الوطن الجزائرية، الناطقة بالفرنسية، وحدها التي تحدثت عن مهمة كان يقودها الجنرال حسان، مدير فرع مكافحة الإرهاب في الحدود مع ليبيا، استولى خلالها على ترسانة من الأسلحة، قيل إنه لم يقم بإعلام قيادة الأركان عنها، وتم اتهامه بعدها بالتخطيط لعملية انقلابية، غير أنه لا أحد يملك معطياتٍ حول صحة هذه المعلومات من عدمها. وحده مدير الاستخبارات السابق قال عن مرؤوسه إن نشاط "حسان" كان في إطار المهمة الأمنية التي كلف بها، وتم وفق القواعد المعمول بها.
سَبَقَ وزير الدفاع الأسبق خالد نزار مدين في توصيف محاكمة وهران بقوله إنها "جريمة
وافتراء في حق الجنرال آيت واعرابي وعائلته". وقال رئيس حزب طلائع الحريات ورئيس الحكومة الأسبق، علي بن فليس، "إن التعتيم الذي طبع هذه القضية يؤدي، لا محالة، إلى وجود خلفيات غير معلنة ونيات خفية وتوظيفات لهذا الملف ليست تلك التي وضعت في واجهته". كما وصف قضية الجنرال حسان بأنها "من وجوه عملية التطهير السياسي بتهمة اللاموالاة". من جهته، تحدث محاميه خالد بورايو أن "قضية الجنرال حسان ذات طابع سياسي"، أما المحامي مقران آيت العربي، فتكلم عن "غياب المحاكمة العادلة".
قد يدرج بعضهم الإجابة على سؤال لماذا يتكلم قائد المخابرات السابق للمرة الأولى في خانة أن الرجل قد تخلص من واجب التحفظ، وأصبح، بعد إحالته على التقاعد، جزءاً من الماضي، كما قد يبدو لبعضهم أن مدين أصبح بدفاعه عن زميله في قضيةٍ لا يعرفها الرأي العام الجزائري مدافعاً عن نفسه، وهو يرى أن الدائرة اقتربت منه أكثر فأكثر، فهو في الأخير الرئيس المباشر لحسان ومكمن أسراره وأسرار فترة عصيبة من تاريخ الجزائر معه.
روى لي أحد الأصدقاء الثقات أنه التقى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في سويسرا في منتصف التسعينيات مرات عديدة، وكلما كان الحديث يتطرق إلى علاقة الرئاسة في الجزائر بجهاز الاستخبارات، كان بوتفليقة ينتقد هذه العلاقة، ويعتبر أن الاستعلامات جهاز مواز للرئاسة، وأنه يجب تصحيح هذه العلاقة لصالح الرئاسة، وفي تراتبية عسكرية تتبع من خلالها الاستخبارات رئاسة الأركان في وزارة الدفاع. وبعد سنوات طويلة من الغياب، أصبح بوتفليقة رئيساً للجمهورية، وقال قولته الشهيرة إنه لا يريد أن يكون نصف رئيس، في إشارة واضحةٍ إلى علاقة الرئاسة بالاستخبارات التي قيل عنها الكثير بأنها صانعة الرؤساء.
يطل في سنة 2014 رئيس حزب جبهة التحرير الوطني، عمّار سعداني، بتصريح ناري ضد "محمد مدين المدعو توفيق" مدير المخابرات الجزائرية، الأمر الذي فاجأ الجزائريين، فهم لم يعهدوا مثل الخطاب فيما سبق. توالى بعدها اصطفاف محموم في صف "توفيق" وآخر مناهض له، واتضح فيما بعد أن الصراع في أعلى هرم في السلطة بين المخابرات والرئاسة.
بعد عام، تم تجريد "محمد مدين توفيق" من كل صلاحياته، وأحيل على التقاعد في سبتمبر/ أيلول الماضي وتداعت حبات سبحته، فكانت محاكمة الجنرال "حسان"، وكان جديدها أيضا إدانة المدير السابق للأمن الرئاسي، اللواء جمال مجدوب كحال، في المحكمة العسكرية في قسنطينة، بتهمة الإهمال الخطير، عقب إطلاق نار في الإقامة الرئاسية في زرالدة في يوليو/تموز الماضي.
ويصدق في التطرق لهذا الموضوع قول الأعشى: كَنَاطِحٍ صَخرَة يَوْماً ليوهنها. فَلَمْ يَضِرْها
وَأوْهَى قَرْنَهُ الوعل. فالمعلومات شحيحة، والخوض في غمار التحليل كمن يمشي في حقل ألغام وقد أضاع خارطة الطريق، غير أن الثابت في كل ما حدث أن الرئاسة انتصرت في معركتها مع قيادة الاستخبارات.
الغريب أن بعض الصحافة خرجت علينا مدّعية معرفة أغوار فترة مدين الطويلة، فاتخذت من هذا الرجل موقفاً مضاداً وتقريعياً، والعجيب أن الصحافة نفسها كانت تسبح بحمده وتهلل له، ليل نهار. وما فتئت أن قلبت معطفها، بعد أن ولى الرجل مدبراً، وهو الذي صنعها، وراكم مالها، وسمح لها بتجاوز القوانين.
ينتقد "محمد مدين" قانوناً عسكرياً يعود إلى زمن الرئيس هواري بومدين، فهو ينتقد "جور" القضاء العسكري الذي لم يشهد القانون الخاص به تغييراً منذ صدوره عام 1971. عقب محاولة الانقلاب التي قادها رئيس أركان الجيش آنذاك، العقيد الطاهر زبيري (عام 1967) ضد بومدين. ويشتكي مثل ما يشتكي البسطاء مما يعتقدون أنه جور.. سيحكم التاريخ يوماً ما لـ"توفيق" أو عليه، سيحكم أيضاً عن الإجراءات التي اتخذت، أخيراً، بإعادة تنظيم جهاز الاستعلامات وترتيب بيتها.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فما يجري من مماحكات وتصريحات وتصريحات مضادة لمسؤولين سابقين، أو حاليين، ورؤساء أحزاب، سواء في العلن أو في الخفاء، وما تحيكه العصب وما تحكيه بلسان وأقلام بعض الصحف والمواقع أمر خطير جداً، من شأنه أن يُدخل في القلب رجفةً، ويزيد من منسوب الدماء في العروق، فالجزائر تعيش تغييراتٍ غير مسبوقة في دواليب السلطة، لا يعلم أهدافها إلا العاملون عليها. أما البسطاء فلا يملكون إلا الدعاء، عسى أن يكون ذلك برداً وسلاماً على بلدٍ تحوم من حوله أخطار من الداخل والخارج.

دلالات
خليل بن الدين
خليل بن الدين
إعلامي جزائري، من مواليد 1962، عمل في الصحافة المكتوبة، وفي التلفزيون الجزائري، وأستاذا مشاركا في قسم الإعلام جامعة وهران، وعمل في تلفزيون دبي كبير مراسلين ومشرف نشرات، ويعمل حالياً في قناة الجزيرة.