الاحتلال عن بعد.. الأفضل لنهب الثروات

11 مايو 2014
+ الخط -

اقتصاديات العروبة (1)

أستهل بداية مقالاتي لقارئ "العربي الجديد" بموضوع كان حلماً منذ عهد الزعيم جمال عبد الناصر، الى أن تبدد الحلم بسبب التشرذم السياسي وعشق وغرام السلطة والدكتاتورية والقمع والتبعية العمياء للغرب او للشرق، فلا فرق في هوية المتبوع مادام التابع يظل تابعاً، الى أن أيقظ الربيع العربي الحلم الذي أراد المتآمرون أن يحولوه الى خريف دائم.
.. تارة بالإيحاء بأن هذا الربيع كان مدبراً كظاهرة الاستمطار أو الامطار الصناعية التي فشلت في ارسال الغيث الصناعي الى الاراضي القاحلة والعطشى، وتارة أخرى بإثارة الفتن والقلاقل لتكره الشعوب الربيع وازهاره وتحب الخريف بعواصفه وفساده، وذلك تحت مسميات براقة وخادعة كالفوضى الخلاقة (عفواً الفوضي هي الفوضى ولا تنتج الا الفوضى مع الاعتذار لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس) وحقوق الانسان ومنظمات المجتمع المدني.

وظهرت وظائف وأدوار جديدة لهؤلاء كالناشط السياسي والناشط الحقوقي والمحلل الاستراتيجي وما الى ذلك من أدوار ينفق عليها ببذخ واضح من دون أن يكون لها مصدر تمويل معلوم ومعلن.

واختلط الحابل بالنابل وانزلقت الجمعيات الخيرية في أوحال السياسة وتناست دورها في تخفيف حدة العوز والفقر المتفشي في شتى بقاع عالمنا العربي الكبير وحتى في الاقطار الغنية منه بسبب روث وعفن السياسة وزواج السلطة بالاقتصاد أو برأس المال.

نعم.. جاء الربيع العربي بآمال دفينة وصحوة واعية، ولا غرابة في وجود صور الزعيم جمال عبد الناصر في ميادين الحرية والعدالة الاجتماعية في عالمنا العربي الكبير، إنه الرجل الذي آمن بالعروبة وعاش ومات من أجلها.

 ونظراً لارتباط السياسة الوثيق بالاقتصاد فلا فكاك لأي منهما عن الآخر، إنه الزواج الكاثوليكي، فلا طلاق الا بالزنا أو بالموت أو بالانتحار، ولكن تقل درجة هيمنة السياسة على الاقتصاد كلما كان المجتمع ديموقراطياً ومتقدماً، والعكس صحيح تماماً حيث تزيد درجة هيمنة السياسة على الاقتصاد كلما كان المجتمع دكتاتورياً ومتخلفاً أو نامياً بالتعبير المهذب للتخلف.

ففي العالم النائم – عفواً النامي ــ تكون للسياسة الغلبة على مقدرات الأمور.

فالاقتصاد يتبع السياسة ويدور في فلكها ويبرر دهاقنة الفساد وأبواق الآلة الإعلامية للحاكم سياساته الاقتصادية الفاشلة التي تخدم بقاء الحاكم على الكرسي الى الابد، ومن ثم وئدت العروبة في المهد بأيدي العرب انفسهم لا بأيدي أعدائهم، ثم جاء حزب البعث العربي الوحدوي التقدمي الاشتراكي وما الى ذلك من الـ..الـ....الـ.....، ليرفع شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، ولم يعمل بهذا الشعار ساعة واحدة اللهم الا فتح العراق الشقيق أراضيه لتستوعب العمالة العربية ولا سيما المصرية منها دون قيد أو شرط، مما ساعد في إعمار العراق المستقبلة للعمالة العربية وفي تنمية وتحسين الاحوال المعيشية للدول العربية المصدرة للعمالة، الى أن زج بالعراق في الحرب العراقية الايرانية، تلك الحرب التي استنفدت العراق وايران معاً، ووصفها الرئيس أنور السادات ــ رحمه الله ــ بعد عدة ايام من اندلاعها بأنها حرب بين عنيد ومغرور لا يعلم مداها إلّا الله.

 وبالفعل استمرت الحرب ثماني سنوات طوالٍ وانتهت بالصلح بعد ما تحقق هدفها الاستراتيجي وهو استنزاف القوتين العراقية والايرانية لحساب العم سام والاونكل كوهين، ولم يدرك الاشاوس هذا الهدف الاستراتيجي لهذه الحرب حتى سقطت بغداد في ايدي مغول العصر بعد توريطها في حرب اخرى مع شقيقتها الكويت وكأن الاشقاء ابناء الاب والجد الواحد يتنازعون على حصة فانية في ميراث أبيهم الفاني!.

ثم جاءت الطامة الكبرى في السودان الذي أجرى استفتاءً علنياً بمراقبة وتنظيم مباشر من المجتمع الدولي راعي الانقسام والفرقة والتشتت.. وينفصل الجنوب عن الشمال برعاية المجتمع الدولي وتشجيعه ولا سيما نجم هوليوود جون كلوني الذي كان مقيماً اقامة دائمة بجنوب السودان ولم يغادره حتي اطمئن إلى الانفصال، وتتوالى آفة الفرقة بين أقاليم السودان الأخرى وتمتد الى دارفور، ولا يعلم الا الله مدى وباء الفرقة والتشتت العربي.

ثم تكالب الصهاينة وأتباعهم على مصر من وراء الستار ليدبروا مشروع سد النهضة لخنق مصر مائياً والاعتداء على حقوقها التاريخية في مياه النيل كدولة مصب، وتم اختيار موقع السد بخبث وخسة على الرافد الذي يزوّد مصر بحوالى 85% من مواردها المائية.

وصمت الشقيق السوداني صمت الحملان برغم أن الكارثة قد تصيبه هو أولاً، لأن العم سام أراد الانتقام من مصر العروبة التي بنت السد العالي واتخذت قرارها رغم انفه هو والبنك الدولي الذي رفض تمويل السد العالي، فأرسل العم سام علماءه الى أدغال افريقيا ليدرسوا، على مدى نصف قرن، كيف يقطعون الماء عن مصر، وأوعزوا إلى إثيوبيا ببناء هذا السد برغم تعدد المواقع التي تصلح لبنائه من دون إلحاق الضرر بمصر!.

لكن يحلم من يتصور أن مصر سترضخ لأوهام السيطرة المائية لإثيوبيا أو لغيرها.

هيهات أن يحدث ذلك، ومن ير خلاف ذلك فعليه قراءة التاريخ جيداً ليتعلم من تاريخ مصر الفرعونية والقبطية والاسلامية والعربية، ونحن ننصح بدورنا مؤسسات التمويل الاستعمارية التي تمول سد النهضة ونقول لهم إن تمويلكم سيضيع سدىً لأنه تمويل بلا عائد فالمشروع لن يكتمل وسيظل قواعد اسمنتية في عمق الارض الى الأبد.

وسعى مقاولو وشيوخ الفتنة إلى تمزيق المجتمع المصري بتصنيفه الى طائفة من ذوي اللحى وطائفة اخرى من غير الملتحين، لكن العمق الحضاري والوسطية المصرية أفسدا مخططاتهم سريعاً وإلى الابد حتى برغم مليارات الوفير الذي أنفق - ولازال - بسخاء المال السياسي POLITICAL DOLLARS.

لكن دون جدوى لأن لعراقة الشعوب سمات وخصائص لا يدركها ــ لحسن الحظ – طيور الظلام ومقاولو أنفار الفتنة.

ثم قفز اصحاب المصالح ومقاولو الفرقة والتشرذم علي سورية ليسرقوا أحلام الشعب السوري ويركبوا ثورته التي بدأت بريئة وشريفة كأي ربيع عربي آخر، حتي حضر مقاولو الثورات من الباطن، فتحولت الى صراع على السلطة والمصالح والنفوذ والمذاهب، والمجتمع الدولي يشجب ويدين ولم يكلف خاطره اللهم إلا بتعيين المبعوث الدولي الذي لا حول له ولا قوة تجاه القوى الظلامية والعاتية التي تلعب بمقدرات سورية، ولا يهتم احد بملايين اللاجئين ولا المصابين ولا القتلى السوريين حتى بمجرد الدعاء الذي لا يكلف المؤمنين شيئاً!.

أما في ليبيا فقد تحرك المجتمع الدولي بسرعة فائقة كسرعة الانترنت فائق السرعة لا ليقتلع نظام القذافي ولا ليساند ثورة الربيع العربي هناك بل ليسيطر على منابع وإمدادات البترول من جهة، ومن جهة اخرى ليسلح الجميع ويروي جذور القبلية والعصبية الخاملة، وقد كان له ما اراد، ولكن لحين قصير جداً إن شاء الله، ولم يتحرك المجتمع الدولي نقسه في سورية لأن ليس فيها بترول أو ربما لأن المجتمع الدولي لا يحب قمر الدين السوري الفاخر لأنه لا يصوم في رمضان!.

أما في العالم الأول الذي بنى ثرواته وتراكمه الرأسمالي الكثيف على انقاض العالم الثالث، حيث نهب ثرواته نهباً منظماً في عصر الاستعمار المباشر، ــ ولا يزال ينهبها ــ بعد انتهاء عصر الاستعمار المباشر بفضل حركات التحرر الوطني في اعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث تم الانتقال الى عصر الاستعمار عن بعد، فلا داعي للاحتلال المباشر، بل يجري الاستنزاف بأدوات ووسائل اخرى هي التبعية السياسية والمالية والمصرفية والتجارية والاقتصادية والتكنولوجية والقانونية أيضاً عبر آلية التحكيم، وهكذا يجري نهب وحلب العالم النامي عن بعد دون الحاجة إلى وجود استعمار مادي عسكري على اراضي الدول المحتلة عن بعد.

ولا شك في أن الاحتلال عن بعد يعدّ اقتصادياً أفضل بالنسبة إلى الدول الاستعمارية مقارنة بالنمط التقليدي أو الكلاسيكي للاحتلال، فالأول اقل كلفة من الثاني لأنه لا يتطلب ارسال قوات وتجييش جيوش، لذلك يعتبر أوفر من حيث الوقت والجهد والتكلفة والعائد ايضاً، ذلك لأن معدلات النهب تكون أسرع بفضل تقدم وسائل الاتصال التي تكفل التحويل البرقي والآني للثروات من دون انتظار.

ولم يكتف العالم الأول بالنهب المستمر لموارد العالم الثالث، بل أدرك أن مصالحه الاقتصادية والسياسية تكمن في التكتل الاقتصادي ضد الدول النامية والفقيرة، وهنا طبّق الأوروبيون فكر القومية العربية من دون أن تكون لهم قومية واحدة، حيث وقعوا اتفاقية ماستريخت وفعّلوا الاتحاد الاوروبي برغم أنهم أجناس وأعراق ولغات شتى ولكن جمعتهم المصالح الواحدة، لذلك تتراجع هيمنة السياسة كثيراً أمام المصالح الاقتصادية في المجتمعات الديموقراطية والمتقدمة.

ويحدثنا التاريخ الاقتصادي العربي الحديث والمعاصر عن القرار الاقتصادي العربي إبان حرب اكتوبر/تشرين الأول 1973 وكيف جعل العالم بأسره، ولا سيما العالم الغربي، يركع أمام الارادة العربية التي استخدمت البترول وهو سلاح اقتصادي في خدمة قرار الحرب وهو قرار سياسي في نموذج واع وناضج لاقتصاديات العروبة.

ورحم الله الزعماء العرب انور السادات والملك فيصل والشيخ زايد والسلطان قابوس والشيخ الصباح والرئيس هواري بومدين الذين اتخذوا هذا القرار العظيم، عندما قالوا إن الدم العربي أغلي من البترول العربي، ولكن سرعان ما بثت القوى الامبريالية وأذنابها نيران الفتنة والشقاق مرة أخرى ليعود على ما كان عليه، ويكون هدف الطغاة ألا يتحد العرب مرة اخرى، وكان لهم ما ارادوا، ولكن لحين، فهيهات أن يستمر الشقاق الي الأبد، حتى ولو كره الانفصاليون، فالربيع العربي هو الفجر الجديد حتى لو تأخر بزوغه قليلاً بسبب بعض الغيوم التي ستتبدد لا محال، فهكذا يكون طبع الشروق دائماً.

 وبعد هذه المقدمة الضرورية لأبعاد ولحدود الارتباط بين السياسة والاقتصاد وفقاً لدرجة التقدم والحرية للاقتصاد وللمجتمع، سنحاول إحياء الحلم العربي القديم، حلم القومية العربية من المنظور الاقتصادي لا السياسي، لنرى كيف يمكن للاقتصاد العربي أن يدعم ويعزز ويرسّخ العروبة بعدما فشلت السياسة في ذلك فشلاً ذريعاً، حيث أفسدت السياسة كل شيء، ولكني سأظل دائماً مراهناً على كل من الشعوب العربية والشباب العربي الجديد الذي أبهر العالم في ميادين الحرية والربيع العربي الدائم بإذن الله، وحتى إذا كان القرار الاقتصادي مسبوقاً دائماً بقرار سياسي أو بإرادة سياسية الا أنني سأستبدل الإرادة السياسية بالإرادة الشعبية العربية التي ستجعل السياسيين يرضخون لها لتحقيق اقتصاد العروبة، لأنه اذا كانت الحكومات تخلع وتعزل، فإن الشعوب غير قابلة للعزل ولا للخلع، وبالتعبير الاقتصادي، يشهر افلاس الحكومات والدول ولكن لا يشهر افلاس الشعوب، لأن الشعوب هي التي تأتي بالحكام والدول وهي التي تعزلهم وتخلعهم، ولا يأتي الحكام بالشعوب أزلاً وأبداً.

ويجدر بي قارئي العزيز التنويه الى أنني في كل مقال آت في سلسلة مقالات اقتصاديات العروبة سوف أرسي مبدأ من المبادئ الاقتصادية لاقتصاد العروبة، لنصل في النهاية الى مجموعة من المبادئ الاقتصادية الحاكمة لاقتصاد العروبة، ذلك الحلم العربي القديم الذي آن الأوان لكي يتحقق على أرض الواقع ولينهي الى الأبد السراب الاقتصادي العربي الذي لا يدرك القيمة الحقيقية لثرواته ولإمكاناته الاقتصادية الهائلة، بينما يراها ويدركها العالم الأول ويضعها دائماً في مرمى شباكه لأنه يدرك كيف سيكون قدر العرب اذا أحسنوا إدارة ثرواتهم من منظور قومي لا تجاري.

المساهمون