تتواصل التقديرات الإسرائيلية المختلفة بشأن استمرار الانتفاضة الفلسطينية لعدة أسابيع على الأقل، بحسب تصريحات وزير الأمن الإسرائيلي، موشيه يعالون، أمس أمام مؤتمر أرباب الصناعة، وعدة أشهر مع إمكانية استمرارها في حال هدأت لبعض الوقت، وفق تقديرات للجيش الإسرائيلي أطلقت الأسبوع الماضي. في غضون ذلك، ومع فشل زيارة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، هذا الأسبوع، ورفض حكومة بنيامين نتنياهو تقديم أية "تسهيلات" وتنازلات للفلسطينيين ما لم تتوقف الانتفاضة، نشر مركز أبحاث الأمن القومي ورقة تقدير موقف، ذهب فيها إلى القول إن الاحتلال الإسرائيلي "يفتقر في واقع الحال إلى الأدوات المناسبة للقضاء على الانتفاضة".
وتأتي هذه الورقة بالتزامن مع الاقتراحات التي كانت قيادة الجيش قد رفعتها إلى الحكومة الإسرائيلية، مطالبة بتحسين ظروف معيشة الفلسطينيين، وخفض جيل منح تصاريح العمل للشباب في الأراضي المحتلة، بالتوازي مع السعي إلى تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية وتزويدها بالسلاح وبالمركبات المحصّنة والسريعة، لضمان نجاحها في التنقل السريع وقدرة أجهزتها على مواصلة دورها في منع الاحتكاك بين الفلسطينيين وبين قوات الاحتلال والمستوطنين، عند خطوط التماس في الضفة الغربية المحتلة.
وبحسب الورقة، التي وضعها الباحث كوبي ميخائيل والعقيد أودي ديكل، فإن "اندلاع الانتفاضة قبل نحو شهرين فاجأ في واقع الحال جزءاً من القيادة السياسية كما الجمهور الإسرائيلي، بسبب تتابع الأحداث واختيار نمط العمل الفردي مع الدمج بين العامل القومي والديني في انطلاق عمليات الانتفاضة الحالية، لكن من دون تجاهل البعد المستوحى من (داعش) في سياق الجهاد المقدس"، كما جاء في الورقة.
وكالعادة، حتى في مركز أبحاث الأمن القومي، سارع الباحثان، كباقي مراكز الأبحاث الإسرائيلية وتقديرات الموقف، إلى نسب اندلاع الانتفاضة إلى حالة اليأس والإحباط وليس إلى عامل وجود الاحتلال، ولكنهما أضافا أن اليأس نابع من الإدراك الواضح والمتراكم بانسداد كافة الطرق، وأنه ليس لهم من يعتمدون عليه أو يركنون إليه، ناهيك عن انعدام الثقة بالقيادة الفلسطينية، مع رغبة في القضاء على "النظام القائم"، من دون أي التزام بطبيعة النظام المقبل الذي سيحل بعده.
وفي سياق تشخيص مركز أبحاث الأمن القومي ومحاولة تعداد أسباب الانتفاضة الحالية بشكلها الفردي، فإنه أورد حقيقة "الشعور السائد لدى الشباب الفلسطيني بأنه ليس هناك ما يخسره، خصوصاً أن القيادة الفلسطينية بشقيها، حماس والسلطة الفلسطينية، منشغلتان بصراع البقاء، وانعدام الاهتمام الإقليمي، بما يحدث وتحديداً من قِبل مصر والأردن، إضافة إلى التجاهل الدولي للمسألة الفلسطينية بعد توجّه الأنظار والاهتمام إلى قتال داعش".
وعلى ضوء هذا التشخيص ذهب مُعدّا الورقة إلى القول إن الصعوبات التي يواجهها الجمهور والقيادة الإسرائيلية في مواجهة نمط عمليات الطعن والدهس، تدفع بهما إلى العودة إلى "صندوق الأدوات" المعروف لهما باعتباره الحل الأمثل، الذي تم استخدامه واعتماده في الانتفاضة الثانية. لكن إسرائيل واجهت يومها انتفاضة منظمة، بينما تواجه اليوم عمليات لا تشبه الانتفاضة الثانية بل تختلف عنها، فهي تفتقر إلى التنظيم، ويقودها أفراد لا يستخدمون السلاح الناري. وأبرز الباحثان حقيقة مشاركة فتيان قاصرين في عمليات الطعن، كمؤشر على "انهيار المنظومات الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني التقليدي".
في المقابل، اعتبر الكاتبان أن ظاهرة العمليات الفردية، التي يقودها فتية وفتيات قاصرون، تخدم السلطة الفلسطينية، باعتبارها ظاهرة تشكل تحدياً جديداً لإسرائيل يمنعها من استخدام قوة مفرطة ضد أجهزة الأمن الفلسطينية وضد الجمهور الفلسطيني.
ورأى الباحثان وجوب فهم بروفيل العمليات ومنفذيها وحدود القوة والرد المطلوب، من أجل بلورة جملة خطوات لردع الانتفاضة وخفض ألسنتها وإنهائها، مع اتخاذ خطوات تثبت أن إسرائيل تحارب "الإرهاب" بنجاعة. لكن خطوات غير مدروسة، تعتمد القوة المفرطة، من شأنها أن تدفع في اتجاه تصعيد من الجانب الفلسطيني إلى حد ارتفاع في عدد منفذي العمليات بالتوازي مع تراجع في منسوب رغبة الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مواجهة هذه العمليات، وفي استمرار التنسيق الأمني مع إسرائيل.
اقرأ أيضاً: تطرّف حكومة نتنياهو يدفعها لمواجهة مع جيشها
وأقر الباحثان، على ضوء ما ذكر أعلاه، بأن "إسرائيل لم تنجح، أو لم تبادر في السنوات الأخيرة إلى بلورة وتحديد (صندوق أدوات ناجعة) جديدة تلائم المتغيرات وتتناسب مع روح المرحلة: صندوق يشمل بذل جهد اقتصادي، ومجهود في البنى التحتية والاجتماعية والتعليمية، بما في ذلك استخدام وسائل الإعلام الحديثة، من أجل تطوير قيادة جديدة، وخصوصاً أن السنوات الأخيرة شهدت قمع نمو وتطور قيادة فلسطينية محلية قريبة من هموم الفلسطينيين، وتكون في الوقت ذاته عنواناً للحوار مع إسرائيل".
ولكن على ضوء غياب هذه الأدوات الجديدة المطلوبة وفي ظل غياب رد للتحديات الاستراتيجية، تتم العودة للأدوات القديمة، وهناك من يدفعون باتجاه خطط عمليات، مثل عملية الاجتياح البري للضفة الغربية تحت عنوان "السور الواقي". ومن شأن الضغوط الكبيرة الممارسة على المستويين السياسي والعسكري، للقيام بشيء ما، أن تمس بعملية صنع القرار وأن تهز "الانضباط" في الرد الإسرائيلي لجهة تبنّي منطق عملياتي غير ملائم لجوهر الانتفاضة الحالية.
ووضع الباحثان الخطوات الإسرائيلية الأخيرة، مثل تفتيش كل سيارة ومركبة فلسطينية في منطقة بيت لحم والخليل، وإلغاء تصاريح العمل ومنع العمال الفلسطينيين من دخول المستوطنات، "كجزء من الأدوات والخوات التي تشوش المنطق السليم، وتعكس استخدام أدوات قديمة باتت بالية لا فائدة منها. وهي خطوات قد تدفع الجمهور الفلسطيني إلى تأييد العمليات على نطاق أوسع وتحد من قدرة الأجهزة الأمنية على مواصلة عملها، ومن مواصلة التنسيق الأمني مع إسرائيل ومحاربة الجهات الإرهابية الفلسطينية".
في المقابل اقترحت الورقة "ترشيد استخدام الشبكات الاجتماعية والإتيان بأفكار جذابة ضد التطرف القومي والديني، السائد في صفوف شرائح الشبيبة الفلسطينية". وعلى الرغم من أن الكاتبين أوصيا أيضاً بدور للسلطة الفلسطينية في هذا السياق، إلا أنهما أشارا إلى أن "السلطة لم تعد قادرة على الإقناع، بل إنها متهمة من قِبل الفلسطينيين أنفسهم بتحمّل جزء من المسؤولية عن حالة الإحباط واليأس، وهي تقف اليوم على حافة هاوية، ما يلزم إسرائيل بالعمل لتجنيد القيادة الفلسطينية على علاتها في مواجهة الانتفاضة والتنصل من الإرهاب، لكن هذا يتطلب اللجوء إلى أدوات جديدة غير المتوفرة وغير المستخدمة حالياً، وفي مقدمتها إقامة مناطق صناعية وإيجاد أماكن عمل، وأن تثبت إسرائيل مصداقية في رغبتها في العودة إلى طاولة المفاوضات وبأنها جادة في السعي إلى حل يقوم على دولتين مقابل تنصل السلطة الفلسطينية من الإرهاب".
وخلصت الورقة في هذا المضمار إلى ضرورة سعي الاحتلال "إلى تحسين ظروف حياة الفلسطينيين ورفاهيتهم، وإلا فإنه من دون إجراء هذه التغييرات والسير على طريقها، ستبقى هناك حاجة لبقاء قوات كبيرة في الأراضي المحتلة، وحالة استعداد ويقظة عاليتين ونشاط محدد لإحباط العمليات، انطلاقاً من أننا أمام واقع متواصل يحمل في طياته نذر تصعيدٍ مستترٍ لا يمكن مواجهته إلا بالأدوات الجديدة".
اقرأ أيضاً: "هآرتس": الاحتلال أوصى قبل الانتفاضة بتعزيز السلطة الفلسطينية