الاتفاق النووي.. لئلا يكونَ العربُ بنداً في الأضرار الجانبية

13 ابريل 2015
+ الخط -

الاتفاق وسياقه التاريخي

يجوز لنا اعتبار اتفاق الإطار الذي تمّ التوصل إليه بين إيران والقوى الكبرى (الموسومة خمسة زائد واحد) تتويجًا لصيرورة تحولات تاريخية دولية وإقليمية.

على المستوى الدولي، اتضحت للولايات المتحدة حدود الامبراطوريّة، لناحية قدرتها على نشر قوات وخوض حروب متزامنة في أرجاء مختلفة من العالم، ولناحية جدوى القوة العسكريّة في تنفيذ ما سُمّي، في مرحلة المحافظين الجدد، بالدفاع عن الحريّة على المستوى العالمي، أو ما سُمي في العراق، على سبيل السخرية من التاريخ التي تبعتها سخرية التاريخ، "عمليّة بناء الأمّة".

ومنذ لجنة بيكر-هاملتون، وتولي روبرت جيتس وزارة الدفاع في الولايات المتحدة في فترة جورج بوش الرئاسية الثانية، وحتى الفترة الثّانية من رئاسة باراك أوباما، نشهدُ إعادة تقييم تقوم بها المؤسّسة الأميركيّة السياسيّة والأمنيّة، وتتقاطع فيه مع التيارات الليبراليّة التي تحذّر من نتائج التدخلات العسكريّة وإسقاطاتها على المجتمع الأميركي، والتي يمثلها، في هذه المرحلة، باراك أوباما نفسه. وتقوم الإدارة الأميركية، حالياً، بخطوات لرفع الحصار عن ميانمار (بورما) وكوبا، فضلاً عن المفاوضات، للتوصل إلى ما قد يقود إلى رفع العقوبات عن إيران، ثمة نهج إذا.

رافق التحول هذا صعود روسيا من أنقاض الاتحاد السوفييتي، كدولة وطنيّة قوية، تعرض نفسها حامية لنظام الدولة الوطنيّة في العالم، في مرحلةٍ تخلّت فيها تماماً عن الأيديولوجيا والقيم في السياسة الخارجية، أيّاً كانت هذه القيم، وأصبح ما يُمكنها أن تنشره هو البراغماتية المصلحية المحض، مموهة في لا- أيديولوجيا تحويل الدّولة الوطنيّة وسيادتها إلى أيديولوجيا، ومتمثلة بتحالف الديكتاتوريات ضد التدخّل الخارجي، وضد عوامل عدم الاستقرار في الداخل، سواء أكان ناتجًا عن حراك ديمقراطيّ، أو حركات إرهابيّة، فالأمر سيان بالنّسبة للوستفاليين الجدد الروس، ومبدؤهم "الناس تحت سيادة ديكتاتورييهم"، خلف "الناس على دين ملوكهم".

أما إقليميًّا، فقد جرت دماء كثيرة في النيل ودجلة والفرات. وسبق أن تطرّقنا، مرارًا وتكرارًا، إلى خصوصية صعود الشعوب العربيّة قوّة على مسرح التاريخ، مطالبةً بالحرية والكرامة وبنظام حكم ديمقراطي تحديدًا، وذلك في مرحلةِ هيمنة سياسة تعارض تصديره في الولايات المتحدة، وامتناع الإدارة الأميركية عن مساندة المطالبين به، وكشف الغطاء عن هشاشة الدولة العربيّة، ولا  سيّما في الحالات التي تشكلُ فيها الدولة قشرةً رقيقةً لبنيّة اجتماعيّة متواشجة مع بنية النظام السياسي.

وما يهمنا، في سياق التحولات الإقليمية، هو التمدّد الإيراني في ظل العقوبات الأميركية، بعد استعادة هذه الدولة أنفاسها من حرب الثماني سنوات مع العراق، وتحولها إلى الهجوم عبر تقاطع مصالح موضوعي مع الولايات المتحدة في أفغانستان 2001، والعراق 2003 (وهو تقاطع لا يأنف التواطؤَ حين يلزم)، واستغلالها ارتباك الاحتلال الأميركي في العراق، وفشله في معالجة تعقيدات الحالة العراقيّة السياسيّة والاجتماعيّة، وفي مواجهة المقاومة العراقيّة. فقد وطّدت إيران نفوذها في ذلك البلد العربي، عبر أحزاب طائفيّة، وعبر إعادة بناء الجيش والأمن، مستغلّةً سقوط الولايات المتحدة وحلفائها في خطيئة حلّ الجيش، واجتثاث جهاز الدولة السابق برمته، إذ اقتحمت إيران العراق من أبواب الاحتلال، والفراغ، والتجييش الطائفي ضد النظام السابق.

وفي سياق توسعها غربًا، استغلت إيران عداء الشعوب العربيّة إسرائيل، كما نفذت إلى الرأي العام، من خلال الفراغ الذي خلفه تخلّي الأنظمة العربيّة عن دعم المقاومتين، الفلسطينيّة واللبنانيّة، وتركيزها على ما سمتّها استراتيجيّة السلام، بدءًا من نموذج كامب ديفيد وحتى اتفاقي أوسلو ووادي عربة، والتمسّك بمبادرة السلام العربية التي حلت حتى محل الصراع العربي الإسرائيلي.

ومع نهوض الشعوب العربيّة الثوري في عام 2011، لم تقف إيران مع تطلعات الشعوب، بل استغلّت هشاشة الدول العربيّة لتوسيع نفوذها. وموقع الإعضال ومطرح الإشكال هنا، بالنّسبة لأي عربي متمسّك بعروبته، يساريًّا كان أم يمينيًّا، ديمقراطيًّا أم مساندًا للديكتاتورية، ثوريًّا أم محافظًا، أنّ إيران تراهن على هشاشة الأنظمة العربيّة، لنسج عرى ولاءٍ مباشرٍ لها في أوساطٍ من المجتمعات العربية، وفي محاولات تركيب تحالفات أقليات. وبالنسبة لأي عروبي، بغض النظر عن أيديولوجيته، أو طائفته، تُرتَكبُ، هنا، فعلةُ تفتيتٍ تُطاول حتى المجتمعات المحلية، فضلاً عن الأمة نفسها. وهو أمر لا يبرره الضعف العربي. ولم يبرر أي عربي للاستعمار، في الماضي، رهانه على مخاوف الأقليات، على أنواعها وامتيازاتها، حتى حين كانت الأقطار والمجتمعات العربية في أوضاع أسوأ.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الدّول العربيّة التي تخشى هذا التمدّد الإيراني غير قادرة على طرح مشروع دولة إقليميّة، أو تعاون دول وطنيّة، قادرة للتصدي للمشروع الإيراني، ليس خارجيًّا فحسب، بل أيضًا على مستوى تماسك مجتمعاتها وشعوبها، بالجمع بين التنمية وحقوق المواطن، وعلى مستوى سحب البساط من تحت أقدام الدعاية الإيرانيّة، واتخاذ موقفٍ مبدئيٍّ من قضيّة فلسطين، بصفتها قضيّة عربيّة، وليست عبئًا يُنشَد التخلّص منه.

في إيران نفسها، وقع للثّورة الإيرانيّة ما عرفته ثورات عديدة أخرى، فقد تمأسست ونشأت لها معارضات من داخل الثّورة نفسها، منها الواقعي السياسي، والثوري الأصولي الذي يتمسك بما يعتبره نقاء الثورة في بداياتها، ومنها من يريد تجاوزها إلى مرحلة تاريخية جديدة، ومنها ما يجمع بين عناصر من كل ما ذُكر.

وغالبًا ما يؤدي حصر هذه التناقضات المتنوعة في صراعٍ بين محافظين وإصلاحيين إلى الكثير من الاختزال وعدم الدقّة. فالأمر الأهم، برأينا، في إيران، هو التناقض القائم بين الدولة الدينيّة ونظام الحكم المذهبي الذي تتفرّد به إيران عالميًّا من جهة، ومستوى علمنة المجتمع الإيراني، ولاسيّما في المدن، والتناقض بين السياسيين وسلك الكهنوت، والتناقض بين النخبة الحاكمة عموماً وتطلعات الشباب في الطبقات الوسطى في المدن، على الرغم من درجة تركيب النظام وتعدديته وقدرته على ربط فئات واسعة من الشعب مصلحيًّا به، عبر تنظيمات شعبيّة-رسميّة واسعة، مثل الباسيج والمؤسّسة الدينيّة وأتباعها، وغير ذلك.

في سعي إيران إلى رفع العقوبات، والاستجابة للتحديات الاقتصادية الداخلية، واحتلال موقع لها في الاقتصاد والسياسة العالميين، ومن أجل التوصّل إلى اتفاق الإطار، اضطرّت إيران إلى التعهد بالتنازل عن 13 ألفاً من أجهزة الطرد المركزي التي تمتلكها، فهي ستكتفي بتشغيل 5060 جهازاً من أصل 19 ألفاً مدة عشر سنوات. وبالمجمل، قبلت إيران بجعل مستوى التخصيب أقل من 3.67%، ووافقت كذلك على جعل نشاطها النووي تحت رقابة المؤسّسات الدوليّة الصارمة. لقد وافقت إيران عمليًّا على المس بسيادتها في كل ما يتعلق بنشاطها النووي.

كل هذا سيبعد إيران مدّة عام على الأقل عن تصنيع القنبلة النوويّة طوال مدة سريان الاتفاق. وتعِدُ الولايات المتحدة نفسَها بأنّ العين الفاحصة للنشاط النووي الإيراني ووضعها تحت الرقابة طوال 15 عاماً، ستمكّنها من التحكّم بما سيجري بعد هذه الفترة أيضًا. وإيران سوف تتغير نتيجة له. والأهم من هذا كله أنه لا يوجد بديل للتفاوض والاتفاق. يصح هذا كلّه، إذا وُقِّع الاتفاق في 30 يونيو/حزيران المقبل.

أمّا إيران فتشترط أن ترفع العقوبات الاقتصاديّة الدوليّة والأميركيّة المفروضة عليها فور التوقيع، في حين يتحدث الأميركيون عن رفع العقوبات، بعد التأكّد من التزام إيران بالاتفاق، من دون تبيين آليات ذلك. لا شيء رسمي نهائي واضح بهذا الشأن، وكل طرف يحاول أن يخرج رابحا في نظر رأيه العام.


احتفاء الإصلاحيين بنتائج لوزان

احتفل الاصلاحيون الإيرانيون والليبراليون الأميركيون بالاتفاق، على الرغم من عدم الوضوح الذي يشوبه، فهم يريدون تهيئة الرأي العامّ، والدفع باتجاه توقيعه، بعد تذليل الخلافات على التفاصيل التي لم يُتفق عليها بعد. وتبدي قمة المؤسّسة الإيرانيّة الحاليّة، ممثّلةً بالمرشد الأعلى، تحفظها من الاحتفال الشعبي الإيراني باتفاق الإطار، (تصريحات خامنئي يوم 9 إبريل/نيسان 2015) لأنها تعرف سبب هذا الاحتفال ودوافعه، وتؤكّد على ضرورة التوصّل إلى اتفاق يضمن رفع العقوبات، من جهة، واستمرار النشاط النووي، أو ما يسميها المرشد بالصناعة النوويّة الإيرانيّة، من جهة أخرى.

سوف تُبدي لنا الأيام ما نجهله حاليًّا. لكن، لا يمكننا تجاهل التقاء المصالح بين الإصلاحيين الإيرانيين والإدارة الأميركية، واضطرار المؤسّسة الإيرانيّة التقليديّة للدخول في حالة دفاع عن قلاعها وحصونها. ولن يقوم الإصلاحيون بالتنافس مع هذا الخطاب بتقديم التنازلات للغرب أو للعرب، بل باستخدام الوطنيّة الإيرانيّة. فسوف يؤكدون على ضرورة رفع العقوبات كافّةً، ويؤكدون، في مقابل الخطاب الإسلامي الذي تحوّل، أخيراً، إلى خطاب مذهبي فقط على تقاطع القوميّة الفارسيّة والوطنيّة الإيرانيّة، ذات الطابع المذهبي. ومن هنا، نرى تصريح مستشار الرئيس روحاني حول عودة الإمبراطوريّة الفارسيّة وعاصمتها بغداد.

ما يُفترض أن يلفت النّظر قبل تفاصيل اتفاق لوزان هو أن المحتفين بالاتفاق في إيران هم أنفسهم الذين خرجوا إلى الشوارع، كأنصارٍ للثورة الخضراء، لدعم أمير حسين موسوي والتيار الإصلاحي ضد تحالف المرشد والرئيس أحمدي نجاد في حينه (الذي لم يكن مجرد محافظ، بل كان ثورياً ذا لون خاص، متحالفا مع المحافظين). ومن الواضح أنّ هؤلاء الإصلاحيين الذين يدفعون باتجاه التركيز على قضايا إيران الداخليّة، ويدعون إلى إصلاحات سياسيّة اجتماعيّة واقتصاديّة واسعة، تبدأ بالحريات الشخصية، وتطاول فساد رجال الدين، هم الأكثر تطلّعًا إلى تحقيق انفراجٍ مع الغرب والولايات المتحدة تحديدًا، وهم الذي يستندون إلى فئاتٍ اجتماعيّةٍ، تتطلّع إلى نمط الحياة الغربي، أكثر مما تتطلّع إلى نمط الحياة الذي تعمل المؤسّسة الدينيّة على فرضه في إيران.

ليس الإصلاحيون أقل تمسّكًا بمصالح إيران الجيوستراتيجيّة. على العكس تمامًا، إنّهم يرون مصالح إيران الجيوستراتيجيّة كدولة إقليمية في حالة تفاهم وتوزيع أدوار مع الغرب، وينفرون من التدخّل الإيراني في الشؤون العربيّة، لناحية مستلزماته المتعلقة بخطاب المقاومة وفلسطين، ولأنّه يؤدي إلى تداخل مصالح بين إيران والعرب في مواجهة إسرائيل والغرب. ولذلك، يشجع الإصلاحيون المتحمسون لاتفاق لوزان، والذين استقبلوا أعضاء الوفد المفاوض استقبال الأبطال، القيادة الإيرانيّة على نهج الانفتاح تجاه الغرب، ما قد يفتح آفاقًا أوسع لتطوّر إيران في الاتجاه الذي يرتؤونه، سياسيًّا واقتصاديًّا.

ليس الانفتاح على الغرب مؤامرة ضدّ العرب، مثلما لم يكن دعم إيران المقاومة الفلسطينيّة، أو اللبنانية، تآمرًا مع إسرائيل. هذا الانفتاح هو نتاج ديناميكيات اجتماعيّة سياسيّة في إيران، عبّرت عنها، من ناحية الثّورة الخضراء، ثم الطرق الالتفافيّة والمسارب التي فتحها للإصلاحيين داخل البنية المعقّدة للنظام الإيراني، وانتخاب حسن روحاني رئيسًا، ودرجة فاعليّة العقوبات الاقتصاديّة الدوليّة والأميركيّة التي أنهكت الاقتصاد الإيراني، وأصبحت تشكّل مصدرًا أساسيًّا لتذمّر فئات واسعة من الشعب.

ولذلك، لن يكون تأثير هذا الاتفاق إذا وُقّع في 30 يونيو/حزيران المقبل، والانفراج إذا حصل بعده، مجرد تأثير خارجي على إيران وسياستها الخارجية، ولن يشبه المؤامرة التي تُحاك بين فاعلين ثابتين غير متأثرين بها، بل هي عمليّة تفاعل قد تنتج تطورات شبيهة بالتي أنتجها الانفراج مع الغرب المصحوب بسباق التسلّح في الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقيّة، والذي أدّى، تدريجيًّا، إلى وهن الأرثوذوكسية الشيوعيّة، متمثلًة بالأحزاب الشيوعيّة الحاكمة ومؤسساتها، وتجوّف خطابها، نتيجة للتناقض بينه وبين نمط الحياة الفعلي السائد والعلاقات الحقيقيّة السائدة مع الغرب. من هذه الزاوية، قد يبدو الاتفاق النووي والانفراج مع الغرب منعطفًا تاريخيًّا ذا أثرٍ إيجابي، لا سيما من منظور القوى الإصلاحية.

وفي هذا السياق، لا يمكنني تجنب مقارنة التوسع الإيراني الحالي الإقليمي بالتوسّع السوفييتي في أفغانستان في نهاية سبعينيّات القرن الماضي، والذي بدا وكأنه تقدم وتوسّع، لكن ضعف القوّة الحقيقيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والفكريّة جعله المغامرة التي استنزفت النظام السوفييتي.

لقد بدت إيران في أوج قوّتها، بعد التخلّص من نظام حركة طالبان، بالتّعاون مع الاحتلال الأميركي لأفغانستان، ونظام صدام حسين بالتّعاون، أيضًا، مع الاحتلال الأميركي، وتمدّدت، بشكلٍ ملحوظ، في المشرق العربي، مستندةً، في شرعيتها، إلى خطاب إسلامي عام، يرتكز إلى القضيّة الفلسطينيّة ومعاداة أميركا من جهة، وخطاب فئوي أكثر خصوصية، يروم كسب ولاء الشيعة العرب. وبرز بالتدريج تناقض الخطاب الثاني مع الأوّل، حتى كاد يفرغه من مضمونه.


حول الردّ على التمدد الإيراني منذ 2011

مع نهوض الشعوب العربية عام 2011، شهدت المنطقة ردود فعل من أنماط مختلفة على هذا التمدّد الإيراني. إن أحد العوامل المهمّة التي عرّضت الحراك الشعبي العربي إلى انتكاسة هو نفسه العامل الذي ساعد إيران في التخلص من ورطة الثورات العربية، وذلك بأن جعلها تبدو في صفٍّ واحد مع الإجماع الدّولي. إنّه التطرّف الديني، المتمثّل بالسلفيّة الجهاديّة التي تردّ على تمدّدٍ إيرانيٍّ، طائفيّ الطابع، بدعاية طائفيّة صريحة، وخطاب تكفيري، وعنفٍ ضدَّ المدنيين، فتكّفر الإسلامي والعلماني، والشيعي والسني، وتعادي الديمقراطيّة والديكتاتوريّة على حد سواء، وتكفّر الأنظمة والشعوب التي ثارت عليها. ومثلما وجدت إيران نفسها مع الولايات المتحدة في تحالفٍ ضدّ "طالبان"، ها هي تجد نفسها، الآن، في تحالفٍ شبيه، لكنه أكثر صراحة ووضوحا ضدّ تنظيم الدولة الإسلاميّة.

حتى نشوء تنظيم الدولة الإسلاميّة والتنظيمات المتطرّفة الأخرى، كان التمدد الإيراني في الإقليم منذ عام 2011 في حالة دفاعٍ عن النفس، ولا سيما باختيارها الوقوف إلى جانب ديكتاتورية بشار الأسد التي ترتكب حرب إبادة ومحرقة بحق الشعب السوري، وخلف نظام المالكي الطائفي البغيض في العراق.

والملفت أنّه، في عهدٍ لم تعد الولايات المتحدة تقبل فيه بالتدخل عسكريًّا ومباشرةً بقوّات بريّة، تحوّلت إيران والمليشيات التابعة لها إلى حليف أميركا البري الذي من دونه لا ينجح قصفٌ جوي. وإضافة إلى الجيوش المتحالفة معها، ولكي تتطمئن إلى الولاء المباشر لها، أنشأت إيران مليشيات طائفية منظمة في سورية والعراق، وعززت تلك القائمة في اليمن، بحيث تتبع لها مباشرة، وليس لحكومات تلك البلدان، حتى لو كانت تابعة هي ذاتها.

وفي مقابلته، في الخامس من إبريل/نيسان الجاري، مع "نيويورك تايمز"، بعد اتفاق لوزان، تساءل باراك أوباما: لماذا لا تنشئُ الدولة العربيّة قوات بريّة للتدخل ضد التنظيمات الإسلاميّة المتطرفة؟ ولماذا لم تفعل شيئًا في سوريّة ضد نظام الحكم هناك؟ وكان أوباما قد وجّه كلامًا شبيهًا باتجاه تركيا، إذ تساءل لماذا تنتظر الدولة التي تمتلك ثاني أقوى جيش في حلف الناتو أن تقوم أميركا بإقامة منطقة حظر جوي بدلاً عنها؟ لماذا لا تفعل تركيا ذلك بنفسها؟

في المقابلة نفسها، اعترف أوباما لإيران بدّورٍ إقليميٍ هام مع بعض الإطراءات لدورها في دول آسيويّة، غير دول الشرق الأوسط. فالعقيدة الأميركية التي ترفض التدخّل في دول العالم، وتنشد الاستقرار، تبحث عن دول إقليمية قادرة على فرض الاستقرار، ويمكن التفاهم معها؛ وهذا ما يجعل أوباما مستعدًا للدوس على القيم الليبراليّة، عندما يتعلّق الأمر بالأمن القومي الأميركي، وذلك بدعم عبد الفتاح السيسي عسكريًّا، والاعتراف بنظام عسكري فاشي في مصر، نجم عن انقلاب دموي على عمليّة تحول ديمقراطي.

يذكّرنا هذا بالموقف الأميركي التقليدي، ما قبل مرحلة المحافظين الجدد الذي يرى أنّ مصالح الأمن القومي الأميركي تعلو على القيم الديمقراطيّة والليبراليّة. فهذه تصلح مبادئ للدستور الأميركي، وليس دستورًا للسياسة الأميركيّة في الخارج، حيث تسود جدلية العدو والصديق.

نلاحظ في خطاب أوباما بعد الاتفاق احترامًا وتقديرًا لإيران، دولة إقليميّة، يمكن التوصّل إلى اتفاقيات معها، وحتى إلى مصالح مشتركة مستقبلًا، مع وجود خلافات بشأن سياستها في الدول العربيّة. هذه بالنسبة لأميركا، من منظور أوباما، خلافات لا صراعات وجود، ويمكن تحقيق اتفاق على الرغم من وجود هذه الخلافات.

وقد منح أوباما الحصة الأكبر من وقته، حوالى نصف المقابلة، في تبرير الاتفاق لتهدئة مخاوف إسرائيل التي يعتبرها حليفاً حقيقياً وديمقراطيّة راسخة. إنه يتفهم مخاوفها من الاتفاقيّة، على الرغم من أنها الدولة الوحيدة التي تمتلك السلاح النووي في المنطقة، وترفض الخضوع لأي إشراف دولي؛ وهو يعد بفعل كل شيء، لكي لا ينجم عن هذه الاتفاقيّة أي تهديد لإسرائيل. أمّا العرب فقد خصّهم بفقرتين، مؤكدًا على أنّه سوف يدعوهم سوية إلى كامب ديفيد، ليشرح لهم الاتفاق، وأيضًا لكي يعظ عليهم في قضايا متعلقة بالتسلح، وأخرى متعلقة بسياساتهم الداخلية، فالخطر الأساسي الذي يتهددهم، في رأيه، ليس إيران، بل مسألة التنمية وعدم وجود متنفسات للشباب العربي الذي قد يتجه إلى الإرهاب.

مشكلة كلام أوباما هذا أنّه لا يلزمه بشيء، لناحية الوقوف مع الديمقراطيّة. ودعمه الحالي السيسي أكبر دليل على ذلك، لكن الملفت أن أوباما لم يخصّ إيران بأي كلام حول مشكلاتها الداخلية، وقمعها الأقليات، ومعاناة أصحاب المذاهب الأخرى والعرب في إيران. من الواضح أنّ الفارق هو المصلحة الأميركيّة بوجود نديّة في التعامل مع إيران، وغياب أي مصلحة أميركيّة بنديّة مع العرب، ولاسيّما في غيابها موضوعيًّا. فالولايات المتحدة لن تصطنع نديّة غير قائمة في التعامل.

هذا تحديدًا ما جعل عرباً كثيرين يتضامنون مع حملة عاصفة الحزم العسكريّة على اليمن، بمن فيهم بعض الذين يعتبرون أنفسهم ضحايا السياسة السعوديّة، في دعمها الثورة المضادّة على مستوى الإقليم، أو في سياساتها السابقة في اليمن. يأسرهم أي نوع من إبانة الهيبة العربيّة في وجه التمدّد الإيراني من جهة، وإزاء الاستهانة الغربيّة بالعرب من جهة أخرى. نقول هذا قبل اتضاح نتائج هذه الحملة، ومدى قدرة الدول العربيّة على تحويل هذا التحالف في الجزيرة العربيّة إلى سابقةٍ، يمكن أن تتبعها محاولات عربيّة أخرى، لتأكيد الذات في سوريّة أو غيرها؛ ومع وجود قوى معادية للتحول الديمقراطي في المنطقة، تريد أن تعتبره مقدمة في مأسسة التدخل العربي ضد الإصلاح والتحول الديمقراطي القادم بلا ريب.

شكّلت الثورة الإيرانية منعطفًا كبيرًا في تاريخ المنطقة. حملت في بداياتها وعدًا شعبيًّا ديمقراطيًّا، وحتى "عالم ثالثيا". وما لبثت أن سيطرت عليها مؤسسة رجال الدين المحافظة، وتيار ولاية الفقيه فيها تحديدا. وقد وفرت الدفعة الأولى لانتشار حركات الإسلام السياسي بقوة، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ونهوضه من جديد، وتغلب بالتدريج الطابع المذهبي على الإسلامي العام مع مقاربة إيران الشيعة العرب وكأنّهم جيش احتياط لها. وما لبث أن تحوّل نهوض الإسلام السياسي الذي ساهمت فيه الثورة الإيرانية إلى استنهاض سنّي ضد هذا النشاط الإيراني، لقد جرت عملية تحويل و"تخييل" الشيعة عموماً إلى طائفة عابرة للحدود، وهذا وضع جديد. والأجد منه هو المحاولة الجارية لتحويل السنّة إلى طائفة. وليس مصادفةً أن الطوائف من هذا النوع، أي كجماعات متخيلة كبرى، مدمرةٌ للدولة الوطنية، كما أنها تطرح نفسها بديلا للهوية القومية العربية في الوقت ذاته.

ولا شكّ لدي في أنّ الخليج العربي، والمشرق العربي عمومًا، يعيش، حتى يومنا هذا، نتائج الثّورة الإيرانيّة من جهة، والحرب الأميركيّة على العراق عام 2003، واستغلال إيران لها من جهة أخرى.

قد تكون اتفاقيّة لوزان منعطفًا تاريخيًّا جديدًا يعيد ترتيب التحالفات والأولويات في المنطقة، ويخطئ العرب كثيرًا إذا اعتبروا هذا الاتفاق مسألة تفاصيل لم يُتفق عليها بعد، أو إذا اعتبروا أنّهم مجرّد بند على قائمة الأضرار الجانبيّة للعلاقة الأميركيّة-الإيرانيّة. وإيران كانت، وستبقى، دولة إقليميّة مهمّة، لا بدّ أن يعيش معها العرب كجار، باتفاق نووي مع الغرب وبدونه. ولا بدّ أن تعيش هي مع العرب كجيران. ونموذج العلاقة المستقبلية الممكنة هي علاقات التعاون والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخليّة. والتحدي الكبير أمام العرب لمغادرة حالة طلب حماية الغرب من المطامع الإيرانيّة، والشعور الدائم بحالة التهديد هو تحولهم إلى الذات الرئيسيّة الفاعلة في تاريخهم على الأقل، وهذا غير ممكن من دون دول إقليميّة قويّة أو اتحاد دول، وأي من هذه الخيارات غير ممكن، بدون إصلاح في البنى السياسيّة لأنظمة الحكم العربيّة.

وفي هذه الأثناء، يقاوم الناس التمدد الإيراني بما هو موجود، وفي التناقضات القائمة، بعضهم يواجه إيران، فيستغرب غيره استعداده حتى تحالفه مع السعودية لهذا الغرض، وبعضهم يواجه الديكتاتوريات العربية، فيجد نفسه في مواجهة إيران مبديًا استغرابه، كيف أدى الموقف المساند للديكتاتورية ببعض القوميين العرب إلى مواقف مؤيدة للتمدد الإيراني، ومناهضة للعروبة موضوعيا، وصامتة، حد التواطؤ، على عملية التفتيت الطائفي للعرب.

*محاضرة الدكتور عزمي بشارة الافتتاحيّة، في ندوة "الاتفاق النووي الإيراني وتداعياته الإقليميّة والدوليّة"، والتي نظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، السبت 11 نيسان/أبريل 2015.