الإيمان بالنجاة.. نجاة

05 ابريل 2017
+ الخط -
ارتديت صباحاً سترتي الزرقاء متخذة وضع الاستعداد، السترة الزرقاء الفاتحة المضادة للمطر. كنت أُجدِّل شعري فأبدو أقرب إلى طفلة تذهب إلى المدرسة، لا طالبة جامعية في الدراسات العليا. الطريق المؤدّي إلى الشارع الرئيسي طويل نسبياً وأكثر أمناً من الطرق الجانبية، لكني اخترت الطريق القصير المتعرّج في ذلك اليوم.
يبدأ الطريق بمطلع ضيّق يتفرع من شارعنا، ثم تحوطه حدائق خاوية حتى من الكلاب الشاردة التي كانت الحكومة تحرص على قتلها حفاظاً على سلامة المواطنين. في الطريق الموحش، تصير خطواتي عجولة ومتردّدة في الوقت نفسه. قبل أن أصل إلى الشارع الرئيسي، كان هناك شاب يتقدّم قبالتي، أنا خارجة وهو داخل. عندما اقترب مني وتجاوزني بخطوة بدأ بمضايقتي: اللمس، الحك، النغز، الالتصاق، الإمساك، مع كثير من الإشارات والتلميحات والكلمات.. قاموس خاص بالمتحرّشين.
التفتّ محاولة إبعاده أو ضربه، فقام بسحبي ودفعي على الحائط، وضع يده على فمي، وحاول تثبيتي، كنت فجأة في عراك، أستخدم يدي وصوتي معاً، صرّخت كثيراً ونظرت في كلّ الاتجاهات أستنجد بالمارة، بسكان البيوت المطلّة على الدرب، لا أحد.. تجاهلوني أو أنّ صوتي لم يصل إلى جهة أو بيت. استجمعت أكبر قوة لديّ وركلته بقدمي، كان جسدي كلّه يتحرّك ويحاول الإفلات. وفي تلك اللحظة، وقعت حقيبتي على الأرض، شعرت بأنه يريد سرقة الحقيبة، وفهمت لحظتها أنّه متحرّش ارتجالي، أي أنّه رآني فقرّر التحرّش، ولم يكن يخطّط لذلك مثل متحرّشين كثيرين، لذا سأخرج من هذا الشارع، سأنجو. ثبتني بقدميه، ثم نزل ليلتقط الحقيبة فوضعت قدمي عليها، من دون أن أتوقف عن الحركة والصراخ، عَرِف لحظتها ربّما أنّه لن يتمكن من فعل شيء، هرب، هرب فجأة.
تسمّرت في مكاني، تحوّلت إلى خوفٍ على هيئة إنسان حي، شتمته، كنت أسبّ وألعن بصوت عال، أصرخ وأرتجف خوفاً، كأنّي أؤكد لنفسي أنّه هرب فعلاً. كانت دقات قلبي تهدأ وتتباطأ كلّما أسرع هو في الركض والابتعاد، خرجت إلى الشارع، ثم تابعت يومي حتى نهايته، كأنّ شيئا لم يكن.
بقيت أياماً طويلة أشعر بأصابع يده على فمي، أشم رائحة أنفاسه العفنة، أبتسمُ فجأة، لأنه لم ينجح في إيذائي، أبكي لأنّه أعتقد لثواني أنّه يمكنه استباحتي، أغلق عيني فأراني مدفوعة على الحائط يلمسني، أقاومه، أستنجد بعابر سبيل يصير هو بدوره متحرّشاً آخر، يحيطان بي، فأصير محاصرة أكثر، أقع على الأرض. جرّدوني من ملابسي، عارية أمام حشد يكبُر، حشد من المتحرّشين والمتلّصصين، حشد يتفرّج، كان صوت صراخي مسموعاً، لكنّه بدأ يختفي، أصرخ وأغيب أمام شاشة ملآى بتلك الوجوه الكبيرة، بابتساماتها القبيحة، الحشد الذي يتلصّص ويتفرّج، أشمّ رائحتهم النتنة، أتحسّس جلدهم الخشن، أنظر مباشرة إلى أعينهم النافرة فيشيحون النظر بعيداً، يلمسوني في كلّ مكان لا يرتاحون، لا يشبعون، لا يهدأون، أرى، أو أتخيّل (لم أعد أدري) عابرين بعيدين، وأسمع همهمات غائمة، بعضهم يقول هذه نتيجة السير في طريق خطر، وآخرون كانوا يوحون لي بحركة يائسة لأستسلم، أو يسألون عن سبب خروجي من البيت. كان عليّ البقاء هادئة ساكنة، هناك، حيث الأمان الوحيد الممكن، في بيتي، صارت الهمهمات والأسئلة جزءاً من جسم الحشد البشع الذي يحاصرني.
لم يتركوا شيئاً لم يفعلوه، اغتصبوني حتى لحظة ما قبل الموت، لم يكونوا يريدون موتي فهم لا يشبعون، جسد واحد لا يرويهم، كنت أنظر حولي وأرى فتيات كثيرات، لا ليسوا أخريات أبداً، إنهنّ أنا. أراني مئة، أراني مليوناً، أراني ملايين. كأن المشهد قد انتهى للتو، مرمية على الأرض، يعبث المارة بما بقي، كأنّني شيء للفرجة، غرض ضال يزحف بحثاً عن ملجأ، وما أكثرهم في تلك الحدائق.
وصلت إلى الملجأ زحفاً، أنا الآن آمنة، هدوء، سأفتح عيني.. ثوانٍ مرّت تطايرت أشلائي في المكان، استفقت من الكابوس. تحسّست جسدي، تذكرت أني قاومت، تذكرت أنّي نجوت. صارت نجاتي تذكاراً، وتميمة. التميمة التي تحوّل الاعتداء إلى كابوس نصحو منه ونبتعد عنه. لكن هناك آلافاً أخرى، من لم تُقدّر لهم/نّ أيّ نجاة،؛ آلاف لا ملجأ لهم حتى في حديقة أو حلم. ربّما، لو اقتنعنا بالنجاة منذ البداية لنجونا.
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
3B8AE38E-4E09-4A3F-89BA-16154CE498C3
خولة أبو سعدة (سورية)
خولة أبو سعدة (سورية)