الإيمان بالإرادة والإيمان بالإكراه

09 أكتوبر 2016

سيد قطب.. الأب الروحي للحركات الأصولية

+ الخط -
تكاثر المتحدثون باسم الدين كالفطر، بوصفهم حماته من المتآمرين الذين يتعرّضون له في الداخل والخارج، وتزايدت الفتاوى حول قضايا ما أنزل الله بها من سلطان، من جلد الصحافي، إلى قتل أصحاب الفضائيات، إلى زواج الفتيات المبكّر خوفاً من الفتنة، إلى فتاوى القتل والتكفير لهذا الشخص أو ذاك لأتفه الأسباب... إلى مثيلات هذه الفتاوى التي صار مرجعها، أحياناً كثيرة، أمير الحارة الفلانية، أو الزقاق العلاني في ظل الظروف التي تعيشها المنطقة. وأصبح كل واحدٍ يعتبر نفسه وكيل الله على الأرض، ومنفذ الإرادة الإلهية وأوامرها. وبات الانتساب إلى الدين مانحاً سلطات (بالمعنى "الفوكوي" للسلطة أحياناً، وبالمعنى الإجرامي في أغلب الأحيان) لكل من هبّ ودب، ولكل من أطال ذقنه، ولبس جلباباً قصيراً، وحمل سبحته وذهب إلى الجامع، حتى لو كان أميّاً.
ليست هذه الظواهر امتداداً للتراث، حتى لو كانت تدّعي ذلك، إنما هي، في نهاية المطاف، ظواهر حديثة، ولا يجافي القول إنها ابنة الحداثة العربية المشوهة الصواب. وإذا اعتبرنا أن الأديان "أنساق لتنظيم الحياة"، كما يقول ماكس فيبر، فهذا يستوجب دراستها في الظروف الراهنة. وبذلك تكون الممارسة الدينية التي نشاهدها لا تخصّ العالم الآخر، بل تخصّ عالمنا الأرضي الذي نعيشه. وبدل الذهاب إلى أفضل ما في التجربة الإسلامية، من تسامح وجدل فكري يمكن أن تسهم في عقلنة الدين، ليسهم في التأسيس لحداثةٍ مطلوبةٍ في هذه الدول، يتم استدعاء التراث الإسلامي السحري والمغلق والظلامي والتكفيري الذي يجعل العالم الإسلامي أكثر ظلمةً يوماً بعد يوم.
تشير الممارسة الدينية الحديثة بالمعنى السوسيولوجي إلى التعامل مع الدين بوصفه مجموعةً من التعاريف والقواعد والقوالب الجامدة التي يمكن أن نصبّ فيها أي قضايا، قواعد من الممكن التلاعب بها، حسب الحال والطلب، من خلال إسنادها إلى الدين، وبهذه العملية التسطيحية للقضايا المعقدة، يتم السيطرة على المجال الاجتماعي من خلال خطابٍ دينيٍّ شكلاني، وممارساتٍ طقوسية، ومرجعيات مغلقة. وهو ما يجعل الدين متعالياً على المجتمع، ويجعل رجال الدين في مكانة أعلى من الآخرين، وكلاء للدين وناطقين باسم الله، وكل واحدٍ، أو جماعةٍ، تعتبر نفسها المرجعية النهائية المتصلة مع الله من دون وسيط. بما يُدخل هذه الممارسات في تعارضاتٍ وصراعاتٍ تصل إلى تكفير جماعاتٍ تنتمي إلى المجال الاجتماعي والديني نفسه، وحتى تنتمي إلى الجماعة نفسها.
على عكس ذلك، تستمد الأديان الوضعية (الأيديولوجيات) قدسيتها من ارتباطها بالعلوم، وتستمدّ شرعيتها من إنجازاتٍ بشريةٍ في نهاية الأمر، فهي ترسّخ نفسها بوصفها توافقاً بشرياً على "عقد اجتماعي" يحكم الجميع بإرادتهم، يمكن تغييره عبر آلياتٍ تتوافق عليها المجتمعات. أما الأديان السماوية فتستمد قدسيتها من انبثاق هذه الأديان عن الله مباشرةً، وتستمد شرعيتها من تعالي الله وقدرته الكلية على معرفة كل شيء، وآليات التقديس توجد، عبر الأوامر
والنواهي التي يفرضها الله على عبده. فهي، في جميع الحالات، تأتي من خارج المجتمع البشري، لتضبط سلوكه عبر هذه الأوامر والنواهي الملزمة، وليس على الإنسان سوى طاعتها من دون نقاش. والدين بالنسبة لأصحابه يعني عالماً كاملاً يتمتع بقوانينه الخاصة، ومنجزاً بحد ذاته، له قدرته على التعبير عن مجمل تلوّنات الحياة التي يجب أن تنتظم في الآليات التي تفرضها الكتب المقدسة. ليس في هذا أي مشكلة، طالما العلاقة بين الإنسان وربه علاقة مباشرة، أي أن المؤمن يخضع ويلتزم بهذه الأوامر، بمحض إرادته، وإن الله سيحاسبه عليها يوم القيامة. المشكلة في الذين ينصّبون أنفسهم، مطبقين الأوامر الإلهية على الأرض، ويحتكرون تفسيرها، ويريدون أن يجبروا الناس بالقوة العارية على الالتزام بها، حسب وصفتهم. وهنا لا يعود التزام المؤمنين إرادياً، إنما إكراهي، ويتحوّل إلى سلوك سلطوي ظلامي إرهابي.
الفقه الإسلامي واحد من القوالب التي تُستعاد من أجل الإجابة على أسئلة العالم الحديث، وفي تاريخ الفقه الإسلامي، ومع الشافعي، تم ترسيخ النص الديني بوصفه المرجع النهائي لكل ما تفرزه الحياة الإنسانية. وهو انطلق من مقولة الشافعي التي يقول فيها "ما من نازلةٍ إلا ولها في كتاب الله حكم". وبانتقالها إلى كل المذاهب الإسلامية، أصبح النص القرآني المرجع النهائي وكتاب الحلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت في الماضي، والتي تقع في الحاضر، أو التي ستقع في المستقبل. ساد هذا المبدأ التاريخ العقلي والفكري العربي والإسلامي، في أسوأ مراحله التاريخية، وهو الذي يستحضر اليوم. ويتردّد هذا المنطق في الخطاب الديني المعاصر، بكل اتجاهاته وتلوناته.
عمل هذا المبدأ على استقالة العقل، وتحويل دوره ليقتصر على تأويل النص لإيجاد حلول للمشكلات المطروحة. وهذا ما يسوّغ تدخل رجال الدين في الشؤون الدنيوية. ويقوم التدخل على قاعدتين رئيسيتين: الأولى، أن القانون الإلهي الذي جاء في كتاب الله هو ما ينبغي التقيد به وتطبيقه في إيجاد الحلول للشؤون الدنيوية، وليس القانون الإنساني. الثانية، أن القانون الإلهي ليس واضحاً في جميع الحالات، لذلك، هو بحاجة إلى تأويلٍ لاستكشاف خباياه. ليس هذا الاستكشاف متاحاً لكل البشر، ولا يملك هذه القدرة سوى حفنة خاصة من البشر.
تفترض القاعدتان أن القانون الإلهي، لا الإنساني، هو الذي يحكم حياة البشر، وإن "الحاكمية لله" هي القاعدة التي تحكم طبيعة الأحكام الدينية، وإن دور الإنسان تنفيذي. وهو المبدأ الذي حكم ويحكم سلوك الحركات الأصولية، ويحكم تصوّراتها عن المجتمع الذي يسعون إلى بنائه، وهو ما عبر عنه سيد قطب، الأب الروحي للحركات الأصولية، "الجاهلية هي بالضرورة الخضوع لحكم البشر، لأن الحاكمية هي، مفهومياً، حكم الله".
بمزاوجة مفهوم الحاكمية مع مفهوم "الفرقة الناجية"، يتم إنتاج جماعة مغلقة تكفيرية. جماعة
يحولها مبدأ "الحاكمية لله" إلى جماعةٍ تدّعي لنفسها الحق في تمثيل إرادة الله، وهي تدّعي أيضاً أن من حقها تولي زمام الحكم على أساس احتكار معرفة مضمون القانون الإلهي ومستلزماته العملية، وامتلاك أعضائها الصفات والفضائل اللازمة لتنفيذ أوامر الله ونواهيه. ويكمن مبرّر وجود جماعة كهذه في اعتقادها أنها وحدها المؤهلة لتنفيذ إرادة الله في الأرض، وهي وحدها القادرة على تنفيذ أوامر الله ونواهيه عبر العنف. ويجعل توحيد ادعاء الحركات الأصولية مع إرادة الله أيديولوجيتها مطلقة، ويسمح لها بالادّعاء بأنها تمتلك حقائق مطلقة صالحة لكل زمان ومكان، وهي المرجع الأخير والنهائي لكل المسائل الدنيوية.
اعتبار الحركات الأصولية نفسها صادرة عن إرادة الله، من خلال مجموعة من المطلقات، يجعلها تتعامل مع القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية بمنطق التحريم والتجريم وفتاوى الردة والكفر، وليس بمنطق الجدل والحوار والنقاش المفتوح. وطبيعي ألا تنمو، في هذه الأجواء، سوى الظلامية المغلقة التي تعدم مساحات الحرية وتطوّقها بمقولات التحريم والتجريم، ما يعني إخضاع المجتمعات والتضييق عليها، وتفصيل هذه المجتمعات على مقاسات العقول المظلمة ذاتها، وذلك بالادّعاء أن كل ممارسة بشرية يجب أن تحظى بفتاوى التحليل، وإلا تجد التحريم في انتظارها ويخرجها من دائرة القبول من عصابةٍ تتحكّم بالمجتمع باسم الله، لكنها تفصّل كل شيء على مقاسها، ولنا في خلافة "داعش" نموذج دال على أي هاويةٍ، يمكن أن يوصلنا إليها هذا الفكر التكفيري المغلق على ذاته.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.