الإلهاء في زمن الخواء السياسي

20 أكتوبر 2019
+ الخط -
قتلَ فرنسيٌّ يعمل تقني معلوماتية في جهاز الشرطة زملاء له في المقر المركزي للشرطة في باريس. تخبطت الأجهزة الرسمية في تحديد دوافع الجريمة بداية، ثم سرعان ما ذكرت أن القاتل الذي قضى في العملية قد تحوّل أخيرا إلى الإسلام. وتم اعتبار الحادث إرهابياً، حيث يجري البحث في التمييز بين ما يسمّى عمل "الذئاب المنفردة"، أي التي تنتمي إلى عصابة داعش من دون أن تعمل في إطار شبكة واسعة تنسق عملياتها، وعمل منظّم تم الإيعاز به من المجموعة الإرهابية إياها، وذلك باستغلال التوتر النفسي الذي كان القاتل يعيشه كما انتشر. 
وقع الحادث في فترة حرجة بالنسبة للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، كما لوزير داخليته كريستوف كاستانير، فالأول بدأ يهتم أكثر فأكثر بمسألة الانتخابات البلدية في مارس/ آذار المقبل، كما يُحضّر بتؤدة لانتخابات الرئاسة، والتي ستجري في ربيع 2022. والثاني لا يكاد يخرج من أزمة تعصف بأدائه، حتى يقع في تاليتها الأقسى والأكثر تعقيداً، ما يجعله دريئة سهلة لانتقادات المعارضة، كما جزء كبير من الغالبية البرلمانية المنتمية إلى حزب الرئيس.
تلقف المعارضون لسياسات ماكرون، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، الواقعة الأليمة، 
ليتصدّوا لمسألة الفشل في الأداء على مختلف أنواعه للرئاسة وللحكومة. كما فُتح الباب على مصراعيه لتأليب الرأي العام ضد الإسلام والمسلمين من المجموعات المتطرّفة التي لم تجد صعوبةً في تمرير رهابها من الإسلام، في ظل استعار الخطاب السياسي المهيمن، حتى في أوساط التجمعات السياسية غير المتطرّفة. وجاء خطاب ماكرون، في حفل تأبين الشرطيين الضحايا، ليكون شعرة الوقاحة التي قصمت ظهر الوجل في التعامل مع المسألة الدينية الإسلامية في فرنسا.
غابت السياسات الإرادية العامة الفرنسية، أو هي فشلت إن بزغت بداياتها، في مسألة الاندماج والتعامل مع مسألة الدين الإسلامي. وتجدر الإشارة إلى أن المسؤولية أيضا تكاد تكون متبادلة على نسب مختلفة، فقد فشلت، من جهتها، أيضاً الجاليات المسلمة في التنظم في جمعيات مدنيةٍ لا دينية تنقل رغباتها، وتؤطر لتحرّكاتها في فضاء ديمقراطي نسبي تُحسد عليه. وقد تميّز اليسار الفرنسي، ممثلاً بحكم الحزب الاشتراكي فرنسا عدة سنوات، بمواجهة واضحة وصريحة للممارسات الدينية الإسلامية، في تطبيقٍ شبه أعمى لمفاهيم الدولة الحديثة التي قامت على علمانية فرنسية متميزة، بدءاً من الجمهورية الثالثة عام 1905. أما اليمين التقليدي، فهو لم يكن علمانياً بالمعنى الاشتراكي "المتطرّف" إلا أخيرا لمواجهة ما يعتبره تمدّدا مقلقا للدين الإسلامي مجتمعياً، فقد كان اليمين تقليدياً مرتبطاً، بصورة أو بأخرى، بالكنيسة، ويسعى دائما إلى تحييد الحديث عن العلمانية بأبعادها الواسعة والمطبقة فرنسيا، إلا عندما يفيده الحديث بها.
أورد خطاب الرئيس الفرنسي التأبيني إياه عباراتٍ أقلقت الواعين من النخب، خصوصاً عند حديثه عن "مجتمع الحذر". وبالتالي، هو دعا إلى أن يحذر الفرنسيون من مشاهد التشدد التي يلحظونها لدى الآخرين، وينبّهوا من يهمهم الأمر بها. أي أن يمارسوا "التجسّس المجتمعي". وهذه ممارسة تكاد تكون، وفي ظل دولة القانون، دعوةً صريحة إلى تنازل الدولة بمؤسساتها عن لعب دور أساسي مناط بها تقليدياً، وهو حماية المجتمع من العنف غير الشرعي، أي غير الحكومي.
على الرغم من أن الرئيس الفرنسي تنبه لاحقاً إلى أنه غالى في مسألة التخويف من الإسلام
 وممارساته، إلا أن حديثه الصريح ذاك فتح الأبواب على مصراعيها لمن خشي حتى الآن من اتخاذ مواقف معلنة لمكنوناته المعادية للإسلام دينا، وليس تجاوزاتٍ أو حتى ممارسات. فصار الصحافي الصاخب إيلي زيمور، مثلاً، صاحب النظريات الترهيبية والمعادية للإسلام وللمسلمين، يغني في محيطٍ "صديق"، ولم يعد ذاك العنصري "النكرة" الذي يتبرّأ منه كل الناس. وصار من العادي أن نسمع على الشاشة الرسمية مذيعاً يُقارن الحجاب الإسلامي ومعانيه باللباس الرسمي للمخابرات النازية. ولم يعد باعثاً على الصدمة أن تكتب إحدى الصحافيات إن "الحجاب هو علم الإسلام السياسي".
تُشغل مسألة الحجاب المشهد العام الفرنسي المليء بالمشكلات الخطيرة المجتمعية والاقتصادية والسياسية، إلى درجة أنه، ومنذ 11 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، حيث هوجمت سيدة تلبس الحجاب من أحد نواب الحزب اليميني المتطرّف في اجتماع استضافه مجلس النواب، أحصت صحيفة ليبراسيون عدداً يناهز 85 نقاشاً متلفزاً عن مسألة الحجاب، دُعي إليه أكثر من 286 شخصا، لم يوجد بينهم امرأة محجّبة واحدة.
يمنع وزير التربية المحجّبات من مرافقة الرحلات المدرسية. ورئيس جامعة حكومية يطلب من العاملين لديه إملاء استبيان عن مظاهر التدين لدى الناس المحيطين بهم من طلبة وأساتذة وإداريين، وأحد هذه المظاهر امتناع الرجل عن تقبيل النساء لتوجيه التحية. خطابٌ رسميٌ صار مصاباً بالرهاب من الدين الإسلامي، ولم يعد ينحصر الأمر بالمتطرّفين العلمانويين أو المتطرّفين من اليمين العنصري. إنه الإلهاء في زمن الخواء السياسي.
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا
سلام الكواكبي
كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا