الإعلام المصري.. "بص العصفورة"

05 فبراير 2015
شاشات بث تحيط ميدان التحرير بينما يمتلئ بالمتظاهرين(Getty)
+ الخط -

"بص العصفورة" لعبة يعرفها كل طفل مصري، تتلخّص فكرتها في محاولة إلهاء الطفل من خلال أن تشير إلى مكان ما وتطلب منه أن ينظر إلى عصفورة لم تكن موجودة في الأصل، فيتناسى الطفل طلباته ويبدأ في البحث عن العصفورة.

ومع تطور الزمن، أصبحت "بص العصفورة " هي لعبة الصغار والكبار في مصر، كلٌ يلعبها على طريقته، ويعد أبرز لاعبيها على الساحة الآن، أغلب رموز الإعلام المصري، فكلما اشتدت أزمة داخل البلاد كان رد الإعلاميين عليها افتعال أزمة من لا شيء، يتجه إليها الشعب عن بكرة أبيه، باحثاً فيها ومتناسياً أزمته الحقيقية.

في التاسع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، أعلنت المحكمة المصرية براءة المخلوع محمد حسني مبارك من تهم قتل المتظاهرين، وخلال ساعات كانت التظاهرات في الميادين، الأقلام تكتب غاضبة من الحكم، الشارع محتقن، والكل لا يتحدث إلا عن مبارك.

وغنى داعية تقسيم الشعب المصري، علي الحجار، من كلمات عبد الرحمن الأبنودي عقب ثورة يناير التي أسقطت مبارك "يا عم أقعد بس واشرب شاي.. دي الدنيا ماشية وشعبنا نساي... والبركة في الشاشة وفي الجرانين"، ويبدو أن قيادات الإعلام المصري تتخذ من هذا المقطع من أغنية "ضحكة المساجين" شعاراً لها.

فأيام قليلة وخرج على المصريين الإعلامي أحمد موسى متحدثاً عن أنباء مؤكدة عن وفاة مبارك، فيتناسى قطاع من المصريين حكم براءته ويتحوّل الحديث هل مبارك حي أو ميت، رغم أن تلك الشائعة نفسها اعتاد المصريون عليها كلما اشتدت أزمة ما في البلاد، لكن يبدو أن الشائعة لم تؤدِ مستهدفها تلك المرة ولا بد من شيء أكثر سخونة يُنسي الشعب اسم مبارك تماماً.

فتطل بعد أيام قليلة الإعلامية ريهام سعيد في برنامجها "صبايا الخير" بحلقة ساخنة عن خمس فتيات يقلن إن الجن التبسهن وأنهن ينزلن تحت الأرض كل ليلة، وفي محاولة منهن لتأكيد ادعائتهن، لمست إحداهن المصحف الشريف، فظهر على الشاشة يحترق، وفي مشهد درامي استطاع ضيف الحلقة الموصوف بأنه معالج روحاني أن يخرج الجن من الفتيات.

وبعد دقائق من بدء عرض الحلقة، كان الشارع المصري تناسى أن مبارك قد بُرئ وتحولت حواراته من مبارك وبراءته إلى ريهام سعيد وجن حلقتها.

وبعد أيام قليلة، يُنشر خبر القبض على طفل متهم بسرقة خمسة أرغفة خبز من مخبز كان يعمل فيه، وتبدأ إثارة قضية عمالة الأطفال في مصر وسجن صغار السن، فيخرج في اليوم التالي رئيس حي عابدين في القاهرة ليعلن عن تدميره مقهى الملحدين، كما وصفه، وتذهب وسائل الإعلام للحديث عن الملحدين وما سمي بمقهاهم ويصبحون نجوماً لـ"توك شو" الأهم لهذا اليوم، ليسدل الستار على الطفل المحبوس وإلى أين انتهى مصيره.

بعد يومين، ينشر المتحدث العسكري خبر استشهاد طاقم طائرة حربية أثناء قيامها بمهام تدريبية مشتركة مع دولة الإمارات، وقبل أن يبدأ الخبر في الانتشار، محدثاً ضجة حوله، كان الجزء الثاني من حلقة الجن والعفاريت للإعلامية ريهام سعيد قد عرض واشتعلت معه برامج الـ"توك شو" من جديد، ولم ينتبه، إلا القليل لشهداء الطائرة المنكوبة، ولم يبحث أحد عن المسؤول عن موتهم.

يمر أسبوع وتبدأ قنوات فضائية في إذاعة تسريبات من مكتب عبد الفتاح السيسي حين كان وزيراً للدفاع، وتبدأ وسائل الإعلام المصرية في محاولة إثبات أن التسريبات لا أساس لها من الصحة، لكن التكذيب لم يجدِ نفعاً، وبدأ البحث عن العصفورة التي يجب أن ينظر إليها الشعب الآن، ومع اقتراب الاحتفال بأعياد الميلاد، يُصبح الموضوع الأمثل للإلهاء هو هل تجوز تهنئة المسلمين للمسيحيين في أعيادهم أم لا، لكن الجدل حول التهنئة فقط لن يجدي، لأن المصريين اعتادوا عليه كل عام، لذا وجب تكبير الأمر ليشمل مؤسسة الأزهر كاملة.

فينشر خبر عن وزير الزراعة أنه صرح باستفتاء الأزهر قبل تنفيذ مشروع زراعي، ويطل شيخ أزهري آخر ليتحدث عن حكم الملحدين، وهل هم كفار أم لا، ثم تخرج فتوى الأزهر بأنه لا مانع من تهنئة المسيحيين في أعيادهم، وتنطلق برامج الـ"توك شو" متحدثة عن الأزهر ومدنية الدولة وسماحة الإسلام، ويتناسى معها الشعب ما أذيع من انتهاكات قبلها بأيام.

تتوالى التسريبات وتتوالى معها الأحداث، تخفيض الغرامات الموقعة على أحمد عز، عودة الكهرباء للانقطاع، ارتفاع أسعار السلع، تخصيص أراضٍ لسياسيين، مثل عضو حركة تمرد محمود بدر، الذي خصصت له بأمر من رئيس الجمهورية قطعة أرض ليقيم عليها مصنع بسكويت، قوانين تمرر كل يوم، انهيارات في البورصة، وأخيراً تسرب المياه إلى قناة السويس الجديدة، وغرق معدات، وأنباء عن غرق عاملين... إلى آخره.

ومع تكثف الأحداث، ازداد عدد العصافير التي يوجه الإعلام الشعب للنظر إليها، مثل إعلان الراقصة سما المصري ترشحها لمجلس الشعب، الفنانة التي نشرت خبر وفاتها وهي على قيد الحياة، الفيلم الذي تقدمه حديثاً دور العرض، الفنانة التي طلت مرتدية حجاباً على فستان عار.

ومع الساعات الأولى من صباح 23 يناير 2015، كان قد أخلي سبيل جمال وعلاء، نجلي المخلوع مبارك، لكن الإعلام المصري اتخذ قراره بأن يكون موضوعه الموحد هو وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، ومستقبل المنطقة بعد وفاته.


(مصر)

المساهمون