الإصلاح المؤسساتي في الدول العربية

24 ديسمبر 2015
مازال العالم العربي يعاني من إشكالية بناء الدولة(فرانس برس)
+ الخط -
لطالما كثر الحديث قبل الحراك العربي لسنة 2011 وما تلاه إلى يومنا هذا عن الإصلاح، وكذلك عن الخطط والبرامج التقويمية التي رافقته في جل الدول العربية. وسمعنا عن الإصلاح من القيادات السياسية كسبيل لتجاوز أزماتنا التنموية، العلمية والثقافية، لكن ما زلنا نغرق في حيثيات هذا المصطلح دون الغوص في معانيه وغايته التي يمكن أن يكون لها أثر إيجابي عن الدول العربية.


فمنذ فترة الاستقلال حتى الساعة ما زال العالم العربي يعاني من إشكالية بناء الدولة، طبيعتها وشكلها الذي ترتضيه في مصاف الأمم، دون إدراك للأهمية البالغة للمؤسسات في تشييد صرح الدولة والحفاظ عليها. فالمؤسسات هي الدعامة الحقيقية لشرايين الدولة وهي صاحبة الاتصال المباشر بالمواطنين في كل حاجاتهم الخدمية والحقوقية.

وعلى هذا النحو، فعندما نشخص حالة المؤسسات العربية نجد أنها تعاني من عجز كبير في أداء وظائفها، وفي اختلاف شرعية هذه المؤسسات سواء أكانت معينة من الحكام أم منتخبة من الشعب، وكذلك باختلاف طبيعتها السياسية، الاقتصادية، الثقافية أو المجتمعية، فهي مؤسسات في الغالب يطبع عليها الارتهان الناجم عن الفساد الإداري والمالي، وقلة الكفاءة العاملة، والإدارة المالية السيئة، وإهدار الموارد، وصراع المصالح بين الشركاء والفرقاء.

وعلى هذا الأساس، فإن الإصلاح المؤسساتي يستوجب الانطلاق من قواعد سلمية، تحدد معناه وآلياته وأولوياته بالنسبة للدول العربية، كما يستدعي توضيح محاوره الرئيسية التي تتجلى في النقط التالية:

- الحوكمة الجيدة: يتعلق الأمر بإشراك جميع الفاعلين في إعداد سياسات القضايا العامة والوقوف سداً منيعاً أمام الفساد الذي له تداعيات متنوعة، فعلى الجانب الاقتصادي، يؤدي إلى هدر الثروات الوطنية وتعكير مناخ الأعمال حتى أصبحت الاستثمارات الأجنبية تتباعد عن الدول العربية، وصعبت مهام المستثمر المحلي وخاصة أصحاب المقاولات الصغرى والمتوسطة في الاستمرارية وخلق فرص الشغل.

واجتماعياً، عمق الفساد حدة التفاوتات الطبقية وقيام طبقة رأسمالية قائمة على المصالح والانتماءات دون أي حس وطني، كما ضرب المنظومة القيمية باستشراء التحايل وفقدان هيبة القانون. وتهدف الحوكمة إلى إعادة صياغة أدوار ومهام الدولة وعلاقتها بباقي الفاعلين، بما يحقق أهداف السياسة الاقتصادية في ما يتعلق بالنمو، التشغيل والإنتاج في القطاعات الفلاحية، الصناعية والخدمية، وكذلك بتوجيه الإدارات العامة نحو تقديم خدمات مجتمعية أساسية ذات جودة عالية تهم التعليم، الأمن، الصحة والنقل.

- المساءلة والمحاسبة وتعزيز الثقة بمؤسسات الدولة: لقد أصبحت المساءلة والمحاسبة معيارا للكفاءة الحكومية ومحددا لمصداقية المؤسسات العامة واستراتيجياتها الموجهة نحو المواطن، والمساءلة هي وسيلة تمكن الأفراد والمؤسسات من تحمل مسؤولياتهم وتبرير أدائهم للوثوق بهم، حيث إنها مجموعة من الأدوات والتقنيات لتقييم السياسات العامة وتجسيد لمفهوم ديمقراطية الإدارة. أما المحاسبة فهي واجب الكشف عن كيفية التصرف في المسؤولية المعطاة، من خلال تقديم كشف حساب عن نتائج وأهداف تم الاتفاق على شروطها مسبقا من حيث النوع، الكلفة، التوقيت والجودة.

ترتبط منظومة المساءلة والمحاسبة بطبيعة النظام السياسي السائد وفلسفته في الحكم. واقتصادياً، يرتبط الأمر بإقامة مؤسسات قوية وإدارة اقتصادية محكمة خاصة في المجال المالي عبر تقديم الحساب عن الاستعمال الحالي والمتوقع للموارد المالية من أجل ضمان ترشيد عقلاني للموارد وجدارة مالية تحمي المؤسسات من الخسائر.

أما اجتماعيا، فالمساءلة والمحاسبة تبقى رهينة الثقافات المؤسساتية والأعراف الاجتماعية، يضاف إلى ذلك التحدي الإداري والقانوني، فوجود المساءلة والمحاسبة يترتب عنه إقرار أجهزة رقابية، تشريعات قانونية ومؤسسات دستورية توفر مناخاً سليماً يعمل بموضوعية واستقلالية.

- الإدارة المؤهلة والفاعلة: يتعلق الأمر في بدايته بإدارة الموارد البشرية، ولقد سجلت إدارة الموارد البشرية قفزة نوعية مع بداية القرن الحالي وانتقلت من إدارة شؤون العاملين إلى تنمية الرأسمال البشري، حيث أصبحت الموارد البشرية ثروة وأحد المميزات التنافسية التي تستوجب التثمين والاستثمار.

ثم إدارة المخاطر، والتي تمثل مجموع الوسائل والتقنيات التي يتم اللجوء إليها من أجل تخفيض تأثير الخطر والتحكم به في مستوى معين، فليست هناك إدارة قادرة على تصفير المخاطر والقضاء عليها نهائيا، بل إجراءات وتدابير تسعى لاحتوائها والتمكن من التغلب عليها بما يؤمن اتخاذ القرار. علاوة على ضرورة الاستعانة بتقنيات اليقظة الاستراتيجية والذكاء الاقتصادي، والتي تعمل على الغوص في حالات عدم اليقين من خلال مجموعة من التقنيات والأنشطة المترابطة والمتفاعلة للبحث عن المعلومة، معالجتها وتحليلها ثم توزيعها على الدوائر الاقتصادية المعنية.

يهدف ذلك إلى خلق ديناميكية جماعية بناءة تجعل الفاعلين بالمؤسسة في خدمة المعرفة، وكشف الحجاب عن الفرص والمخاطر، والتحكم في الكفاءة التنظيمية واستعمال آليات الضغط قصد اتخاذ القرارات المناسبة.

ختاما، إن بلوغ الرفاهية والتنمية الاقتصادية يحتاج إلى مؤسسات قوية تطلق العنان أمام الكفاءات الوطنية نحو المبادرة الحرة وريادة الأعمال مما ينتج إبداعاً يرخي بظلاله على عموم الوطن. وفي ظل وجود قانون عادل، تؤمن المؤسسات الخدمات الأساسية للمواطنين وفي مقدمتها التعليم كرافعة لنهضة الأمم ومحرك للتنمية الإنسانية، كما تحصن حقوق الملكية وتخلق حوافز مغرية للمنشآت والمقاولات المبتكرة.

(المغرب)
المساهمون