"المواطن العربي يولد ويموت وهو محاصر بالخوف، من كل شيء ومن أيّ شيء"... أصاب محمد الماغوط، وهو يصف واقع الإنسان العربيّ المهدّد في أمنه وحريّته واستقلالية وطنه وقوته. إذ رغم عشرات الخطط الإصلاحيّة واستعراضات النجاح والإنجازات الوهميّة، أثبت الواقع بعد مرور أكثر من خمسة عقود، أنّ التبعيّة الغذائيّة للدول العربيّة تفاقمت أكثر فأكثر بعد فشل مخطّطات الإصلاح الزراعيّ ومعركة الاستقلال الغذائيّ.
فقد أصدرت منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدّة (فاو) تقريراً نهاية العام 2015 تحت عنوان "نظرة إقليميّة عامة حول انعدام الأمن الغذائي"، خلصت إلى تفاقم مشكلة الجوع في المنطقة. فقـد تضاعـف عـدد مـن يعانـون مـن نقـص التغذيـة المزمن فـي شمال أفريقيا والشرق الأوسط مـن 16.5 مليـون شـخص في العام 1992 إلى 33 مليوناً في العام 2016.
كما أشارت الدراسة إلى أن نسبة الأشخاص الذيـن يعانـون مــن نقــص التغذيــة ارتفع مــن 6.6% إلى 7.5% خلال الفتــرة الزمنية نفسها.
خاضت العديد من الدول العربيّة تجارب مختلفة لإصلاح القطاع الزراعيّ وتحصين أمنها الغذائيّ، عبر استيراد عدد من التجارب المماثلة سواء مما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي، أو من تجارب أوروبيّة أو أميركية، وفق الطابع الإيديولوجيّ للأنظمة الحاكمة.
في هذا السياق، يستعرض الباحث الاقتصادي عماد بن سليمان تجربة الإصلاح الزراعي في تونس مشيراً إلى أن الأخيرة تبنّت في مرحلة أولى النموذج الاشتراكي في بداية ستينيات القرن الماضي، عبر ما يعرف بتجربة التعاضد. إذ عمدت الدولة إلى تمركز النشاط الزراعي وإدارة القطاع بشكل كامل، وقد عملت على دمج الملكيات الصغيرة من الأراضي الزراعية في "ضيعات" كبرى (أي الأراضي المدمجة التي تقع تحت إشراف الدولة)، وإخضاع الملكيات الكبرى إلى التقسيم. هذه التجربة لم تستمر أكثر من 6 سنوات لتعلن الحكومة فشلها الذريع في تحقيق الأهداف. حيث تراجع الإنتاج الزراعي بشكل حادّ، كما تمّ ضرب استقلالية النشاط الزراعي بخاصة بالنسبة للبذور، إذ قام النظام الحاكم في تونس أواخر السّتّينيات وبداية السبعينيات بضرب منظومة البذور الأصلية الوطنية لصالح البذور المستوردة، ممّا جعل البلاد تدخل في تبعيّة استيرادية حتّى يومنا هذا".
ويضيف بن سليمان:" إن تصحيح تجربة الإصلاح الزراعيّ بداية السبعينيات، أتت هي الأخرى بنتائج عكسيّة، حيث سعت الدولة إلى انتهاج سياسة مناقضة للتجربة السابقة عبر تحرير النشاط الزراعي ظاهرياً في حين تمّ إهماله لصالح المراهنة على الصناعة والسياحة، ضمن توجه اقتصاديّ جديد". مشيراً إلى أن هذه السياسة أدّت بدورها إلى تراجع الدعم الحكوميّ للفلاحين الذّين وصلت ديونهم بحسب وكالة النهوض بالفلاحة عام 2015 إلى 100 مليون دولار، كما تراجع الاستثمار العموميّ في البنى التحتيّة الفلاحيّة من طرقات وقنوات الريّ وكهربة الآبار. كذا ظهر الاحتكار وسيطرة كبار ملاّك الأراضي على النشاط الفلاحيّ، ممّا أدّى إلى ترك آلاف الفلاحين أراضيهم ونزوحهم نحو المدن الكبرى.
ويؤكّد بن سليمان أنّ فشل تجارب الإصلاح الزراعي في تونس أدى إلى تراجع مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحليّ الإجمالي من 17% في تسعينيات القرن الماضي إلى 8% في أواخر السنة الماضية، بالإضافة إلى العجز المتواصل في تغطية الواردات الغذائيّة والذي يناهز 30% نهاية العام 2015.
تجارب فاشلة
بدورها، كانت الجزائر من الدول العربية التي رفعت شعار الثورة الزراعية والقطيعة مع التبعية الغذائيّة مع دول الاستعمار عقب استقلالها عام 1962. ويشرح الخبير الزراعي عمر بسعود تجربة الإصلاح الزراعي في الجزائر موضّحاً أنّ هذه التجربة مرّت بثلاث مراحل كبرى، أولها مرحلة التسيير الذاتي بين سنوات 1962 و1971 والتّي أخضعت القطاع الزراعي إلى سيطرة الدولة، فتولّت المؤسسات العمومية تحديد المخططات السنوية للإنتاج، كالمخططات المتصلة بالمالية، والتسويق. وكانت الأجهزة الإدارية للقطاع تتدخل في تحديد أسعار المنتوجات الفلاحية، ممّا أفرغ مفهوم "التسيير الذاتي" من محتواه، بإقصاء الفلاّح من أخذ القرار.
ويشير إلى أن فشل هذه التجربة بتحقيق الثورة الزراعيّة والأمن الغذائيّ دفع الدولة إلى إعلان مرحلة الإصلاح الزراعي بين سنوات 1972 و1980، حيث تمّ توزيع الأراضي لصالح الفلاحين الذين لا يملكون أراضي، أو لفلاحين صغار لا يملكون الكفاية. هذه التجربة لم تؤت ثمارها هي الأخرى بحسب بسعود، إذ كان لتوجه الدولة نحو التصنيع وإهمال النشاط الفلاحي دوره في استشراء الفوضى على صعيد الإنتاج والتوزيع. خصوصاً مع غياب هيكل كفوء لتنظيم الطفرة التي شهدها القطاع على صعيد عدد ملاّك الأراضي الجدد.
أمّا التجربة الأخيرة، ففشلت أيضاً، وتمثّلت في تحرير القطاع الفلاحي منذ ثمانينيات القرن الماضي. وقد تلخّصت التجربة بحسب مسعود، في تشجيع الملكيات الخاصة لتحقيق زيادات في الإنتاج، ورفع يد الدولة عن التخطيط والتسيير وتنظيم قطاع التوزيع.
إلا أن هذه التجربة هي الأخرى لم تستطع النهوض بالقطاع نظراً لتزامن تحرير النشاط الفلاحي مع ارتفاع أسعار الخدمات بشكل تدريجي على غرار أسعار الآليات الفلاحية التي تضاعفت خلال الثمانينيات بثلاث مرّات ونصف إضافة إلى أسعار الأسمدة والأدوية والبذور.
واقع انعكس على مردوديّة القطاع وأدّى في نهاية المطاف إلى تراجع القطاع الفلاحيّ بشكل كبير. فبعد أن كانت الزراعة تمثل أكثر من 20 % من الناتج الداخلي الخام وتشغّل أكثر من نصف السكان النشطين، تراجع دورها خلال العقد الأخير لتبلغ مساهمتها في الناتج المحلي الخام 9% وارتفع العجز التجاري الغذائي بنسبة 48%.
من جهته، يؤكّد الباحث الاقتصادي محمد ياسين السوسي أنّ العراقيل الأساسية التي أفشلت معظم جهود إصلاح القطاع الفلاحيّ في مصر أو تونس أو الجزائر أو المغرب وغيرها من دول المنطقة تعود بالأساس لغياب استراتيجيّة متكاملة لتطوير القطاع الفلاحيّ والنهوض بقدرات الفلاّح. حيث تبلغ نسبة الأمية الفلاحيّة في العالم العربيّ ما يناهز 50%، وهو ما يشكل عائقاً كبيراً أمام تعامل الفلاحين مع التكنولوجية الحديثة للقطاع وما تتطلّبه المنافسة الدولية من قدرة على المواكبة والتكيّف السريع مع تقنيات الإنتاج الحديثة. ويضيف السوسي: "يعاني هذا القطاع من عزوف الشباب عن ممارسة الأنشطة الفلاحيّة، حيث يمثل الفلاحون الذين تجاوزوا 60 عاماً نسبة 43%، وهو ما يفسّر التراجع الملحوظ في إيرادات الفلاحة على مستوى الناتج الإجمالي".
اقرأ أيضاً:قهر المزارعين:الدخول إلى منظمة التجارة يهلك السوق العربية
فقد أصدرت منظّمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدّة (فاو) تقريراً نهاية العام 2015 تحت عنوان "نظرة إقليميّة عامة حول انعدام الأمن الغذائي"، خلصت إلى تفاقم مشكلة الجوع في المنطقة. فقـد تضاعـف عـدد مـن يعانـون مـن نقـص التغذيـة المزمن فـي شمال أفريقيا والشرق الأوسط مـن 16.5 مليـون شـخص في العام 1992 إلى 33 مليوناً في العام 2016.
كما أشارت الدراسة إلى أن نسبة الأشخاص الذيـن يعانـون مــن نقــص التغذيــة ارتفع مــن 6.6% إلى 7.5% خلال الفتــرة الزمنية نفسها.
خاضت العديد من الدول العربيّة تجارب مختلفة لإصلاح القطاع الزراعيّ وتحصين أمنها الغذائيّ، عبر استيراد عدد من التجارب المماثلة سواء مما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي، أو من تجارب أوروبيّة أو أميركية، وفق الطابع الإيديولوجيّ للأنظمة الحاكمة.
في هذا السياق، يستعرض الباحث الاقتصادي عماد بن سليمان تجربة الإصلاح الزراعي في تونس مشيراً إلى أن الأخيرة تبنّت في مرحلة أولى النموذج الاشتراكي في بداية ستينيات القرن الماضي، عبر ما يعرف بتجربة التعاضد. إذ عمدت الدولة إلى تمركز النشاط الزراعي وإدارة القطاع بشكل كامل، وقد عملت على دمج الملكيات الصغيرة من الأراضي الزراعية في "ضيعات" كبرى (أي الأراضي المدمجة التي تقع تحت إشراف الدولة)، وإخضاع الملكيات الكبرى إلى التقسيم. هذه التجربة لم تستمر أكثر من 6 سنوات لتعلن الحكومة فشلها الذريع في تحقيق الأهداف. حيث تراجع الإنتاج الزراعي بشكل حادّ، كما تمّ ضرب استقلالية النشاط الزراعي بخاصة بالنسبة للبذور، إذ قام النظام الحاكم في تونس أواخر السّتّينيات وبداية السبعينيات بضرب منظومة البذور الأصلية الوطنية لصالح البذور المستوردة، ممّا جعل البلاد تدخل في تبعيّة استيرادية حتّى يومنا هذا".
ويضيف بن سليمان:" إن تصحيح تجربة الإصلاح الزراعيّ بداية السبعينيات، أتت هي الأخرى بنتائج عكسيّة، حيث سعت الدولة إلى انتهاج سياسة مناقضة للتجربة السابقة عبر تحرير النشاط الزراعي ظاهرياً في حين تمّ إهماله لصالح المراهنة على الصناعة والسياحة، ضمن توجه اقتصاديّ جديد". مشيراً إلى أن هذه السياسة أدّت بدورها إلى تراجع الدعم الحكوميّ للفلاحين الذّين وصلت ديونهم بحسب وكالة النهوض بالفلاحة عام 2015 إلى 100 مليون دولار، كما تراجع الاستثمار العموميّ في البنى التحتيّة الفلاحيّة من طرقات وقنوات الريّ وكهربة الآبار. كذا ظهر الاحتكار وسيطرة كبار ملاّك الأراضي على النشاط الفلاحيّ، ممّا أدّى إلى ترك آلاف الفلاحين أراضيهم ونزوحهم نحو المدن الكبرى.
ويؤكّد بن سليمان أنّ فشل تجارب الإصلاح الزراعي في تونس أدى إلى تراجع مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحليّ الإجمالي من 17% في تسعينيات القرن الماضي إلى 8% في أواخر السنة الماضية، بالإضافة إلى العجز المتواصل في تغطية الواردات الغذائيّة والذي يناهز 30% نهاية العام 2015.
تجارب فاشلة
بدورها، كانت الجزائر من الدول العربية التي رفعت شعار الثورة الزراعية والقطيعة مع التبعية الغذائيّة مع دول الاستعمار عقب استقلالها عام 1962. ويشرح الخبير الزراعي عمر بسعود تجربة الإصلاح الزراعي في الجزائر موضّحاً أنّ هذه التجربة مرّت بثلاث مراحل كبرى، أولها مرحلة التسيير الذاتي بين سنوات 1962 و1971 والتّي أخضعت القطاع الزراعي إلى سيطرة الدولة، فتولّت المؤسسات العمومية تحديد المخططات السنوية للإنتاج، كالمخططات المتصلة بالمالية، والتسويق. وكانت الأجهزة الإدارية للقطاع تتدخل في تحديد أسعار المنتوجات الفلاحية، ممّا أفرغ مفهوم "التسيير الذاتي" من محتواه، بإقصاء الفلاّح من أخذ القرار.
ويشير إلى أن فشل هذه التجربة بتحقيق الثورة الزراعيّة والأمن الغذائيّ دفع الدولة إلى إعلان مرحلة الإصلاح الزراعي بين سنوات 1972 و1980، حيث تمّ توزيع الأراضي لصالح الفلاحين الذين لا يملكون أراضي، أو لفلاحين صغار لا يملكون الكفاية. هذه التجربة لم تؤت ثمارها هي الأخرى بحسب بسعود، إذ كان لتوجه الدولة نحو التصنيع وإهمال النشاط الفلاحي دوره في استشراء الفوضى على صعيد الإنتاج والتوزيع. خصوصاً مع غياب هيكل كفوء لتنظيم الطفرة التي شهدها القطاع على صعيد عدد ملاّك الأراضي الجدد.
أمّا التجربة الأخيرة، ففشلت أيضاً، وتمثّلت في تحرير القطاع الفلاحي منذ ثمانينيات القرن الماضي. وقد تلخّصت التجربة بحسب مسعود، في تشجيع الملكيات الخاصة لتحقيق زيادات في الإنتاج، ورفع يد الدولة عن التخطيط والتسيير وتنظيم قطاع التوزيع.
إلا أن هذه التجربة هي الأخرى لم تستطع النهوض بالقطاع نظراً لتزامن تحرير النشاط الفلاحي مع ارتفاع أسعار الخدمات بشكل تدريجي على غرار أسعار الآليات الفلاحية التي تضاعفت خلال الثمانينيات بثلاث مرّات ونصف إضافة إلى أسعار الأسمدة والأدوية والبذور.
من جهته، يؤكّد الباحث الاقتصادي محمد ياسين السوسي أنّ العراقيل الأساسية التي أفشلت معظم جهود إصلاح القطاع الفلاحيّ في مصر أو تونس أو الجزائر أو المغرب وغيرها من دول المنطقة تعود بالأساس لغياب استراتيجيّة متكاملة لتطوير القطاع الفلاحيّ والنهوض بقدرات الفلاّح. حيث تبلغ نسبة الأمية الفلاحيّة في العالم العربيّ ما يناهز 50%، وهو ما يشكل عائقاً كبيراً أمام تعامل الفلاحين مع التكنولوجية الحديثة للقطاع وما تتطلّبه المنافسة الدولية من قدرة على المواكبة والتكيّف السريع مع تقنيات الإنتاج الحديثة. ويضيف السوسي: "يعاني هذا القطاع من عزوف الشباب عن ممارسة الأنشطة الفلاحيّة، حيث يمثل الفلاحون الذين تجاوزوا 60 عاماً نسبة 43%، وهو ما يفسّر التراجع الملحوظ في إيرادات الفلاحة على مستوى الناتج الإجمالي".
اقرأ أيضاً:قهر المزارعين:الدخول إلى منظمة التجارة يهلك السوق العربية