05 يونيو 2017
الإصلاح الاقتصادي الخاطئ عربياً
حين تُطرح خطط إصلاح الاقتصاد في الدول العربية، يكثر الحديث عن الأحلام الكبيرة من مروّجي هذه الخطط، حيث الطموح بالنهوض الاقتصادي، ومجاراة الاقتصادات الصاعدة عالمياً، لكن التدقيق السريع في أجندة الإصلاح الاقتصادي المطروحة يقود إلى استنتاج خلوّها من أي تفكير بالتصنيع، وتركيزها على الاستثمار كلمةً سحريةً تعد بالمستقبل الزاهر. يتحدّث بعض منظري هذه الخطط وداعميها عن أن عهد التصنيع ولّى، أو أنه فاتنا، ولا داعي للتركيز عليه، وأن الأهم اليوم هو الاندماج في التجارة العالمية بشكل أوسع، وإيجاد البيئة الملائمة للاستثمارين، المحلي والأجنبي. وتخرج هذه الأفكار طازجةً من قلب المدوّنة النيوليبرالية، وضمن الوصفات التي تقدمها المؤسسات الدولية، والشركات الاستشارية الغربية، لإصلاح اقتصاد الدول النامية. غير أن أي فحصٍ للتجارب الاقتصادية الناجحة، قديماً وحديثاً، يؤكد أن التصنيع (وتوطين التكنولوجيا في العقود الأخيرة) هو الركيزة الأساسية للنهوض، وتحقيق تنمية مستدامة.
أكثر من ذلك، لم تطبق الدول الناجحة تنموياً الوصفات النيوليبرالية، المنبثقة من "توافق واشنطن"، وهو الاسم المُعطى للتوصيات الاقتصادية العشر التي وضعها الاقتصادي الأميركي جون ويليامسون، لإخراج الدول النامية من أزماتها، وتحفيز النمو فيها. وتمثل التوصيات خلاصة الأفكار النيوليبرالية بشأن اقتصادات الدول النامية، وتهدف إلى إدماج هذه الاقتصادات في العولمة، عبر تحرير التجارة الخارجية، وإلغاء القيود على الاستثمار الأجنبي، وتقليص دور الدولة، والسماح للقطاع الخاص بتولي إدارة الاقتصاد.
في النموذج الآسيوي، كان دور الدولة فعّالاً في إدارة النشاط الاقتصادي، وتوجيه الحوافز الحكومية إلى القطاعات المختلفة، واتباع سياسات حمايةٍ صارمةٍ للصناعات المحلية الناشئة، لتنمو وتكبر تحت رعاية الدولة، وتنتقل من تغطية السوق المحلي إلى التصدير إلى الخارج، والمنافسة عالمياً. في النموذج الآسيوي، لم تُطبّق نصف توصيات "توافق واشنطن" على الأقل، فقد كان تحرير التجارة محدوداً، وفُرضت قيودٌ مشدّدة على الاستثمار الأجنبي، وكان دور الدولة مهماً في إنشاء مشروعاتٍ عديدةٍ وإدارتها، وتعاملت مع العولمة بانتقائية، عكس ما يدعو إليه اقتصاديون عرب كثيرون، من التعامل مع العولمة بوصفها حزمةً متكاملة، تُؤخذ كلها أو تُترك، مع أن الدول الغنية تتعامل مع العولمة وفق مصالحها، وتضع العراقيل والحواجز أمام دخول بعض صادرات الدول النامية إليها، بالتشدّد في فرض القيود عليها، ودعم المنتجين المحليين.
عكس التجارب الناجحة في التصنيع، تسير الخطط الاقتصادية العربية، المصممة نيوليبرالياً، حيث الإيمان المطلق بآليات السوق الحرة، وهو الإيمان الذي تزعزع بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأنتج مراجعاتٍ مختلفةً من منظري النهج النيوليبرالي، ولم يُعدِّل شيئاً في خطط الإصلاح الاقتصادي العربية. تفترض هذه الخطط أن آليات السوق الحرّة قادرةٌ على توزيع الموارد بكفاءة، ما يعني تقليص دور الدولة إلى الحد الأدنى، بما في ذلك إنهاء دورها في الرعاية الاجتماعية، والدعم للمنتجات الأساسية، ورفع القيود التي تضعها على الأسعار.
لم تنتج هذه النوعية من الخصخصة في التجارب العربية المختلفة، منذ سبعينات القرن المنصرم، غير طبقة من التجار تقيم "إقطاعيات رأسمالية"، عبر الاستثمار في قطاع العقار والسياحة، أو القيام بدور الوكيل للشركات الأجنبية عبر الحصول على الامتياز "الفرانشايز"، وفي أحسن الأحوال، الاتجاه نحو التصنيع الهامشي، المبني على تجميع المكونات المستوردة، والذي لا يضيف قيمةً اقتصاديةً كبيرة. هذه الحالة إقطاعية، بمعنى أنها تقوم على الاحتكار، وإلغاء التنافس الحر الذي يُروَّجه في التنظير النيوليبرالي، لكن سوء التطبيق ليس وحده المشكلة، إذ المشكلة في أساس النظرية، القائم على ترك إدارة الاقتصاد لقوى السوق، وهذا يتسبّب بأزماتٍ في الدول الرأسمالية الصناعية، تُحتِّم تدخل الدولة لإنقاذ النظام الرأسمالي، كما في أزمة الكساد العظيم في الثلاثينات من القرن العشرين، والأزمة المالية العالمية عام 2008، ما يعني فشل آليات السوق في الدول الكبرى، وهو فشل تتضاعف آثاره في الدول النامية.
تبدو إعادة توزيع الثروة، وهي هدفٌ أساسي لأي إصلاح اقتصاديٍّ عربي، ضرباً من الخيال في خططٍ كهذه، إذ إنها تقود إلى توسيع الفوارق الطبقية بدلاً من تقليصها، خصوصاً وأنها تشجّع الأثرياء على مراكمة ثرواتهم، من دون فرض أي نوع من الضرائب عليهم، لاستخدامها في تقديم الدعم للفئات المحتاجة.
كانت السياسات النيوليبرالية التي قدّمت، في آخر عقدين في الوطن العربي، على هيئة إصلاحات اقتصادية، سبباً أساسياً في زيادة معدلات الفقر، وتجريف الطبقة الوسطى، ودافعاً رئيساً للانتقاضات والثورات التي عمت الوطن العربي عام 2011، وعدم الخروج من أسر هذا النوع من التفكير الاقتصادي، من معظم الفاعلين السياسيين، يعني أن الأزمة لا تُعالج، وإنما تتفاقم أكثر.
لا يمكن التفكير بإصلاح اقتصادي من دون التحوّل من حالةٍ ريعية إلى حالةٍ إنتاجية، بالاعتماد على التصنيع ركيزةً أساسية في بناء تنمية مستدامة، كما أن معالجة التفاوت الطبقي، وإعادة توزيع الثروة، هي في صلب أي إصلاح اقتصادي ناجح، ومن دونه لا يحدث تغيير نوعي يتلمسه الناس. إن إطلاق شعار الإصلاح الاقتصادي شيء، وإحداث تغييرات جذرية في بنية الاقتصاد، تقود إلى تنميةٍ مستقلةٍ ومستدامة، شيء آخر، يحتاج تفكيراً خارج الصندوق النيوليبرالي.
أكثر من ذلك، لم تطبق الدول الناجحة تنموياً الوصفات النيوليبرالية، المنبثقة من "توافق واشنطن"، وهو الاسم المُعطى للتوصيات الاقتصادية العشر التي وضعها الاقتصادي الأميركي جون ويليامسون، لإخراج الدول النامية من أزماتها، وتحفيز النمو فيها. وتمثل التوصيات خلاصة الأفكار النيوليبرالية بشأن اقتصادات الدول النامية، وتهدف إلى إدماج هذه الاقتصادات في العولمة، عبر تحرير التجارة الخارجية، وإلغاء القيود على الاستثمار الأجنبي، وتقليص دور الدولة، والسماح للقطاع الخاص بتولي إدارة الاقتصاد.
في النموذج الآسيوي، كان دور الدولة فعّالاً في إدارة النشاط الاقتصادي، وتوجيه الحوافز الحكومية إلى القطاعات المختلفة، واتباع سياسات حمايةٍ صارمةٍ للصناعات المحلية الناشئة، لتنمو وتكبر تحت رعاية الدولة، وتنتقل من تغطية السوق المحلي إلى التصدير إلى الخارج، والمنافسة عالمياً. في النموذج الآسيوي، لم تُطبّق نصف توصيات "توافق واشنطن" على الأقل، فقد كان تحرير التجارة محدوداً، وفُرضت قيودٌ مشدّدة على الاستثمار الأجنبي، وكان دور الدولة مهماً في إنشاء مشروعاتٍ عديدةٍ وإدارتها، وتعاملت مع العولمة بانتقائية، عكس ما يدعو إليه اقتصاديون عرب كثيرون، من التعامل مع العولمة بوصفها حزمةً متكاملة، تُؤخذ كلها أو تُترك، مع أن الدول الغنية تتعامل مع العولمة وفق مصالحها، وتضع العراقيل والحواجز أمام دخول بعض صادرات الدول النامية إليها، بالتشدّد في فرض القيود عليها، ودعم المنتجين المحليين.
عكس التجارب الناجحة في التصنيع، تسير الخطط الاقتصادية العربية، المصممة نيوليبرالياً، حيث الإيمان المطلق بآليات السوق الحرة، وهو الإيمان الذي تزعزع بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأنتج مراجعاتٍ مختلفةً من منظري النهج النيوليبرالي، ولم يُعدِّل شيئاً في خطط الإصلاح الاقتصادي العربية. تفترض هذه الخطط أن آليات السوق الحرّة قادرةٌ على توزيع الموارد بكفاءة، ما يعني تقليص دور الدولة إلى الحد الأدنى، بما في ذلك إنهاء دورها في الرعاية الاجتماعية، والدعم للمنتجات الأساسية، ورفع القيود التي تضعها على الأسعار.
لم تنتج هذه النوعية من الخصخصة في التجارب العربية المختلفة، منذ سبعينات القرن المنصرم، غير طبقة من التجار تقيم "إقطاعيات رأسمالية"، عبر الاستثمار في قطاع العقار والسياحة، أو القيام بدور الوكيل للشركات الأجنبية عبر الحصول على الامتياز "الفرانشايز"، وفي أحسن الأحوال، الاتجاه نحو التصنيع الهامشي، المبني على تجميع المكونات المستوردة، والذي لا يضيف قيمةً اقتصاديةً كبيرة. هذه الحالة إقطاعية، بمعنى أنها تقوم على الاحتكار، وإلغاء التنافس الحر الذي يُروَّجه في التنظير النيوليبرالي، لكن سوء التطبيق ليس وحده المشكلة، إذ المشكلة في أساس النظرية، القائم على ترك إدارة الاقتصاد لقوى السوق، وهذا يتسبّب بأزماتٍ في الدول الرأسمالية الصناعية، تُحتِّم تدخل الدولة لإنقاذ النظام الرأسمالي، كما في أزمة الكساد العظيم في الثلاثينات من القرن العشرين، والأزمة المالية العالمية عام 2008، ما يعني فشل آليات السوق في الدول الكبرى، وهو فشل تتضاعف آثاره في الدول النامية.
تبدو إعادة توزيع الثروة، وهي هدفٌ أساسي لأي إصلاح اقتصاديٍّ عربي، ضرباً من الخيال في خططٍ كهذه، إذ إنها تقود إلى توسيع الفوارق الطبقية بدلاً من تقليصها، خصوصاً وأنها تشجّع الأثرياء على مراكمة ثرواتهم، من دون فرض أي نوع من الضرائب عليهم، لاستخدامها في تقديم الدعم للفئات المحتاجة.
كانت السياسات النيوليبرالية التي قدّمت، في آخر عقدين في الوطن العربي، على هيئة إصلاحات اقتصادية، سبباً أساسياً في زيادة معدلات الفقر، وتجريف الطبقة الوسطى، ودافعاً رئيساً للانتقاضات والثورات التي عمت الوطن العربي عام 2011، وعدم الخروج من أسر هذا النوع من التفكير الاقتصادي، من معظم الفاعلين السياسيين، يعني أن الأزمة لا تُعالج، وإنما تتفاقم أكثر.
لا يمكن التفكير بإصلاح اقتصادي من دون التحوّل من حالةٍ ريعية إلى حالةٍ إنتاجية، بالاعتماد على التصنيع ركيزةً أساسية في بناء تنمية مستدامة، كما أن معالجة التفاوت الطبقي، وإعادة توزيع الثروة، هي في صلب أي إصلاح اقتصادي ناجح، ومن دونه لا يحدث تغيير نوعي يتلمسه الناس. إن إطلاق شعار الإصلاح الاقتصادي شيء، وإحداث تغييرات جذرية في بنية الاقتصاد، تقود إلى تنميةٍ مستقلةٍ ومستدامة، شيء آخر، يحتاج تفكيراً خارج الصندوق النيوليبرالي.