في الوقت الذي لا تزال الأرقام والإحصاءات والصور والمشاهد تتبدّل في ما يخص ملف خطف النساء الأيزيديات منذ "غزوة داعش" لسنجار وإلى الآن، إلا أن العمل على هذا الملف بالتأكيد سيأخذ مدى أوسع بكثير في المستقبل.
فلا تزال الأرقام والإحصاءات الجديدة تظهر هنا وهناك، ولا تزال المشاهد الجديدة للممارسات السيئة والمشينة التي قامت وتقوم بها عصابات "داعش" في تعاملها مع النساء الأيزيديات تأخذ شيئا فشيئا موقعها في الساحة الدولية كجرائم حرب، لأن الاغتصاب في فترة الحروب يعد جريمة إنسانية يحاسب عليها القانون الدولي، كما بدأت الكثير من القصص والحكايات الجديدة تنتشر كل يوم، لتبرز حجم المعاناة وبشاعة الجرائم التي يرتكبها تنظيم "داعش".
فبنجاة كل فتاة أو شابة أو امرأة أيزيدية أو طفل أو رجل أيزيدي، يتجدد الجرح وتتجدد معه الآلام. فصور التعذيب الوحشية التي تعرضت أو تتعرض لها الأيزيديات في قبضة ما يسمى بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام - داعش"، لن تنتهي بنهاية التنظيم، كما أنها لن تنتهي بنجاة كل الأيزيديات والأيزيديين، لأن الوضع والواقع الأليم الذي عاشوه، سيبقى يتعزز في ذاكرتهم لسنوات طويلة، بعد مواقف مشينة حصلت لهم على أيدي عصابات داعش وأحيانا من قبل مواطنين عاديين، ما سينعكس كثيراً على حياتهم ومستقبلهم وتصرفاتهم وستصبح جزءً من الشعور الجمعي تدريجيا، لأن الواقعة لشدة ألمها، لا يشعر بها إلا من عاشها وتعرّف على تفاصيل دقيقة حولها، واستمع إلى شهادات وإفادات حية، وعندما كانوا يسردونها كأنهم يعرضون شريطا سينمائيا لمجرمين لا ينبض داخل أيٍّ منهم قلب كائن حي.
اقرأ أيضاً: الأيزيديّون في العراق: ثلاثة قرون وثلاث مذابح
كانت الصفحة الأبرز في "غزوة داعش" لسنجار هي الاستراتيجية التي وضعوها لعملية خطف النساء والرجال والأطفال، وبالذات النساء، حيث تمت العملية وفق خطة ممنهجة بدقة، تضمنت عدة مراحل بعضها مستمرة. ففي الوقت الذي أشارت التقديرات الأولية بعد الغزوة بأيام إلى أن أكثر من خمسة آلاف امرأة وطفل أيزيدي، بحسب تأكيد أمير الأيزيدية في العراق تحسين سعيد علي في بيان له بهذا الخصوص في الأسبوع الأخير من أغسطس/ آب 2014، قد اختطفهم داعش.
ووفقا لشهادات ومعلومات جمعها نشطاء وناشطات، من المخيمات وأماكن تواجد النازحين، وعدد آخر من الجهات والمراكز والمؤسسات والشخصيات، كان في الجانب الآخر انقطاع أخبار العديد منهم، لأن ممارسات عديدة حصلت بحقهم لم نتعرف عليها بعد، وربما سيكون صعباً علينا التعرف عليهم أو معرفة الظروف التي اختفى فيها هؤلاء، لأن داعش يحاول مسح كل الآثار التي نتجت عن ارتكابه لتلك الجرائم، وبسبب عدم وجود شهود عيان حقيقيين هناك يوثقون تلك الجرائم.
تشير المعلومات التي جاءت بعد حملة داعش على سنجار إلى أنهم وضعوا خطة واستراتيجية محكمة لخطف النساء الأيزيديات، وبدا ذلك واضحاً في منشورهم (دابق العدد الرابع)، إذ مع خطفهم لآلاف النساء والأطفال جرت العملية وفق مراحل عديدة بدأت تدريجيا مع خطف أول مجموعة من النساء والفتيات في سنجار أو كرعوزير، في سيباشيخدر أو حردان، التي شهدت أكبر جريمة أيضا، حيث قتلت عصابات داعش مئات الأشخاص من هذه القرية، جثث بعضهم اكتشفت في مقابر جماعية بعد تحرير سنونى ومناطق شمال سنجار، كما أن نصيب حردان مثل قرية كوجو كان كبيرا من النساء والفتيات اللواتي اختطفهن داعش، وأغلب الحالات حصلت لهن من قبل جيرانهن، وهو ما يشير إلى أن كل الترتيبات قد وضعت بشكل دقيق وممنهج لعملية خطف النساء والفتيات.
ويمكن ملاحظة هذا الأمر ـ خطة داعش في خطف النساء الأيزيديات ـ والتي وإن لم يعلنوا عنها رسمياً، إلا أنها ظهرت بوضوح في عدة محاور:
المحور الأول أنه تم جلب غالبية النساء إلى مركز قضاء سنجار ـ مديرية الشرطة وساحة مقر الحزب الديمقراطي الكوردستاني، ومن هناك تم نقلهن تدريجيا إلى تلعفر وبعاج ومن ثم الموصل.
المحور الثاني أنه في الموصل كانت قاعات وأماكن قد هيئت لإيوائهن وحراس ومستلزمات (ماء وأغطية) قد وفرت، وخاصة في أحد قصور صدام وقاعة غلاغسي للأفراح، وجانب من سد بادوش ومركز حكومي يعتقد أنه كان مركزا عسكريا هيأت فيه مسلحين وحراس كأشخاص مسؤولين مباشرة وقاموا بتسجيل أسماء المخطوفات والمخطوفين، ومنها انطلقت عمليات البيع.
المحور الثالث هو فرز العوائل وكبار السن وبعض أو غالبية الرجال من اللحظات الأولى، فبعضهم تعرض إلى الرمي والقتل العشوائي، والبعض قتلوا في مقابر جماعية في (قنى مهركا ـ كرزرك ـ كرعوزير)، والبعض الآخر منذ البداية أودعوهم السجون، أي المحاولة قدر الإمكان ألا يكون بين النساء رجال أقوياء أو شباب.
المحور الرابع تمثل في الطريقة التي تم التعامل مع عملية الخطف وتوزيع النساء بين عدة اتجاهات من تلعفر إلى الموصل، من سنجار وبعاج إلى المدن السورية، وتهيئة شخص يكون مسؤولا عنهن في كل موقع.
اقرأ أيضاً: "داعش" يبيع نساء أيزيديات لعناصره في سورية
هذا دليل أكيد أن الخطة ـ خطة خطف النساء لم تكن اعتباطية بل مدروسة وممنهجة، ويؤكد هذا التوجه الطريقة التي تم التعامل في توزيعهن وبيعهن وفرزهن أيضا والتي تمثلت وفق مرحلتين:
المرحلة الأولى: جمع النساء ونقلهن من سنجار على شكل مجاميع مع ظهيرة الثالث من أغسطس/آب 2014، بعض منهم توجه إلى تلعفر والبعض الآخر إلى الموصل وقسم ثالث إلى (مركز قضاء بعاج 50 كلم جنوب سنجار، وقسم ثالث توجهوا بهم إلى داخل الأراضي السورية ـ هولا ـ الرقة ـ تلحميس ـ شدادي)، فيما قامت بعض العناصر منذ البداية بنقل بعض النساء إلى بلدات قريبة جنوب سنجار، بعد أن تم جمعهن من مختلف بلدات وقرى ومجمعات سنجار، وأوقفن لساعات في مركز مدينة سنجار، ثم بدأت عملية النقل وفق حراسات مشددة وسيارات ترفرف فوقها أعلام "الدولة الإسلامية".
وفقا لشهادات من قبل الناجيات واتصالات أجريناها مع العديد منهن، تم تدريجي توجيههن إلى مركز قضاء بعاج تم نقلهن إلى تلعفر ومن ثم الموصل، وبعدها بيومين وقسم منهن بعد ثلاثة أو أربعة أيام، إلى أن تم نقل قسم آخر منهن من بعاج إلى الموصل ومجموعات صغيرة إلى القيارة ورامبوسي ومن ثم المجاميع الأكبر إلى بادوش وقاعة للأعراس ومركز الشباب وأحد قصور صدام حسين القريبة من غابات الموصل ومنشأة الكندي وسجن الزنجيلي ومعسكر غزلاني، وهو واحد من أكبر المواقع العسكرية في الموصل، وأبنية أخرى متفرقة داخل الموصل أشهرها مركز عسكري قرب فندق نينوى وأحد القصور ـ المباني الكبيرة، حيث اتخذه داعش كمقر عسكري له في منطقة الغابات.
المرحلة الثانية: تمثلت في التخطيط لخطف النساء في بث رسائل الرعب والتهديد من خلال نشر صور إلقاء القبض وخطف النساء والأطفال مباشرة على مواقع التواصل الاجتماعي وإرسال صور فيديو إلى محطات تلفزيونية، لكي يتم بها تهديد الذين يقفون في وجه تمدد "داعش" السريع الذي لم يكن يتوقعه أحد، وبهذا حققوا انهيارا كبيرا في صفوف الذين أرادوا أن يدافعوا عن مدنهم وبلداتهم، كما بثوا رسالة رعب للعالم والمناطق التي لاحقا توجهوا إليها وبذلك حققوا هدفا كبيرا في استسلام الكثير من المناطق الأخرى وانخراط الآلاف في صفوفها أيضاً.
إن عملية جمع وخلط مجاميع من النساء والفتيات وتبديل وتغيير مواقع العديد من النساء من مناطق مختلفة كان لداعش من وراءها مبررات من أجل أن تستسلم النساء لإرادتهم، وأن يسيطر عليهم بسرعة ويمرر الأعمال التي يقوم بها ضدهن بشكل أكثر سهولة واطمئنانا، وعلى أثرها تشتتت بعض العوائل وتفرق أفرادها ـ نسائها وبناتها في عدة مناطق، وفقا لما خطط له "داعش" في أن لا تبقى العوائل متماسكة، إذ لم يعودوا يعرفون عن بعضهم البعض شيئا، وتم من خلالها توجيه ضربة لذويهم في خلق حالة من الذعر والاستسلام، وخلق فوضى نفسية لأنهم ـ أقارب المختطفين ـ كانوا لا يزالون في الأيام الأولى يدافعون عن جبل سنجار وعشرات الآلاف من المواطنين المحاصرين في جبل سنجار لغاية 12 أغسطس/آب من العام الماضي، والذين كانوا على اتصال مع أفراد عوائلهم وهم في قبضة داعش، وكانوا ينقلون لهم تلك الصور البشعة في التعامل، وكيف أصبحت كل واحدة في موقع لا تعرف ما يجري لقرينتها.
وتقول سيدة في الأربعين من العمر تم بيعها كسبية لرجل في شرقاط "في الأسبوع الثاني كنا مجموعة حوالي ثلاثين فتاة وامرأة في أحد مقرات داعش في الموصل ـ أحد قصور صدام قرب فندق نينوى ـ وخلال أسبوع لم يتبق منها سوى خمس نساء، فجاء رجل ومعه ثلاثة مسلحين وقال لنا إنه اشترانا من رجل يمني وآخر موصلي، ثم أخذونا إلى إحدى القرى النائية بالقرب من طريق بغداد في منطقة الشرقاط، وفي تلك الحالة تشتتت أكثر من تسع نساء وفتيات من نساء آخريات كن معهن". وأضافت حزنى (41 سنة): "الآن وأنا هنا ـ الشرقاط ـ لاحظت أنهم أبعدوا النساء الموجودات هناك عن عوائلهم. في الأسبوع الأول في الموصل، كان معي فتاة في الـ24 من العمر تم فصلها عن أمها وثلاث من شقيقاتها، نعمل ليل نهار في منزل هذا الشخص وهو أحد قادة داعش في المنطقة في خدمة زواره وننظف منزله ونساعد أهله على إدارة شؤون المنزل، ومنذ اليوم الأول الذي جئت إلى هنا أسمع كثيراً عن كيفية التفريق بين الفتيات والأمهات وبناتهن، وعرفت في أي وضع يصبحن بعدها".
اقرأ أيضاً: "نورهان" طفلة أيزيدية تحررت من معتقلات "داعش"