عندما تناقلت وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي خبر رحيل الكاتب والموسيقيّ الجزائري الأمين بْشيشي (1927 - 2020)، أوّل أمس الخميس، استعادَ كثيرٌ من الجزائريّين لحنَين موسيقيَّين ارتبطا بالذاكرة الجماعية البعيدة: الأوّلُ هو موسيقى مسلسل "الحريق" (1974) للمخرج مصطفى بديع، والمأخوذِ من "ثلاثية الجزائر" للروائي محمد ديب، والثاني هو لحنُ أنشودة "مدرستي حان الرحيل" التي ردّدتها أجيالٌ مِن تلاميذ المدارس الجزائرية في آخر أيام المواسم الدراسية، وهو أيضاً لحنُ أشهر برنامجٍ تلفزيوني موجَّهٍ للأطفال في السبعينيات والثمانينيات؛ "الحديقة الساحرة"، وقد استُبدلت فيه كلمةُ "مدرستي" بـ "حديقتي".
في مذكّراته، يروي بْشيشي، الذي وُلد في سدراتة بمحافظة سوق أهراس شرقَي الجزائر، أنّه حين حصل على الشهادة الابتدائية من "المدرسة الكولونيالية" عام 1940، عبّر لوالده - الذي عاد إلى الجزائر عام 1911 بعد أن درس في الأزهر لستّ سنوات - عن رغبته في مواصلة الدراسة حتى يكون طبيباً، لكنه فُوجئ به يرفضه هذا التخصُّص بشكلٍ قاطع، مبرّراً ذلك بقوله: "لا أقبل أبداً أن تتكوَّن في مدرسةٍ تجعلك تستصغر بني قومك وتحتقر بني جلدتك".
ستكون مدينة تبسّة في الشرق الجزائري أوّلَ وُجهةٍ لهذا الطفل الذي لم يكُن يتجاوز الثالثة عشرة من العمر؛ حيث التحق بـ "مدرسة تهذيب البنين والبنات" التي كان يُديرها العربي التبسّي (1891 - 1957)؛ أحدِ الوجوه البارزة في "جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين" التي سيُلحّن في منتصف الخمسينيات قصيدة مؤسّسها عبد الحميد بن باديس "شعب الجزائر". ويَذكرُ بشيشي أنَّ المدينة شهدت خلال سنته الأولى فيها (1941) عاصفةً ثلجيةً واكبها انتشار للحمّى الصفراء التي أودت بالمئات من سُكّانها، فاحتضنه زوجان واتّخذاه ابناً لهما: "بقدر ما كانت الزوجةُ تهتمّ بملبسي ومأكلي، كان الزوج مهتمّاً بدراستي".
بعد إكماله دراسته في تبسّة سنة 1942، ستكون تونس وجهة بشيشي الثانية للدراسة في "جامع الزيتونة"؛ حيثُ سيقف في مرحلةٍ أولى على تشكيل عددٍ من الطلبة الجزائريّين حزباً ثورياً يتشكّل من جناحَين سياسي وعسكري باسم "الحزب القومي الجزائري"، وسيدخُل ميدانَ الفنّ في مرحلةٍ ثانية بدأت مع عودته إلى تونس مجدّداً عام 1943.
في مقرّ "جمعية الكوكب التمثيلي" بتونس العاصمة، حيثُ كان بشيشي يُحضّر مع عددٍ من زملائه لجولة في الجزائر لعرض مسرحية بعنوان "طارق بن زياد"، بغية "جمع أموالٍ للطلبة المعوزين" بإشرافٍ من الطالب عبد الحميد مهري، المناضل البارز في "جبهة التحرير الوطني" لاحقاً، سيتّجه صالح المهدي، الأستاذُ في "المعهد الرشيدي" والعازف على الناي، إلى مهري قائلاً: "تأتون إلى تونس لتعلُّم قواعد النحو والصرف والبلاغة، والتفقُّه في الدين... لكنّكم لا تهتمّون بالفنون التي ليست لها صفة جمالية فقط، بل هي من صميم العلوم".
ويذكر بشيشي أنَّ المهدي عبّر عن استعداده "لتسجيل عشرة من الزيتونيّين الجزائريّين في المعهد الرشيدي المتخصّص في الموسيقى التقليدية التونسية"، وهو ما حدث فعلاً؛ حيثُ انضمَّ سبعةُ طلبة جزائريّين إلى المعهد لتعلُّم الموسيقى، ومن بينهم بشيشي نفسه، والذي سيُفصَل من "الزيتونة" بسبب تغيّبه عنه لثلاثة أشهر متتابعة.
هكذا تغيّر مسار الأمين بشيشي الذي سيتعلّم العزف على آلة الكمان، ويُصبح عنصراً أساسياً في عددٍ من الفرق التونسية؛ من بينها "فرقة المنار" بقيادة رضا القلعي، و"فرقة الخضراء" بقيادة قدّور الصرارفي، و"جوق الرشيدية" بقيادة صالح المهدي ومحمد التريكي.
بعد عودته إلى الجزائر وعمله بين التدريس والإمامة، سيعود بشيشي مجدّداً إلى تونس عام 1956؛ حيث شارك في التحضير لجريدة "المقاومة الجزائرية" التي صدر أوّل أعدادها في الأوّل من تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، كما أسهم في تقديم برنامجٍ بعنوان "صوت الجزائر" على الإذاعة الجزائرية إلى جانب المناضل والمذيع البارز عيسى مسعودي (1931 - 1994).
عاد بشيشي إلى الجزائر بعد الاستقلال حيث تولّى إدارة التلفزيون والإذاعة الجزائريَّين. وفي العام 1966، سيعود إلى التعليم الذي سيكون بوّابته إلى الموسيقى مرّةً أُخرى؛ إذ يذكُر في مذكّراته أنه بدأ تجربة تلحين أناشيد باللغة العربية بعد أنْ لاحظ أنَّ التلاميذ كانوا يُردّدون - خلال فترة الاستراحة - أناشيد باللغة الفرنسية، وقد تزامن ذلك مع بدأ البرنامج التلفزيوني الشهير "الحديقة الساحرة" الذي التزم فيه بتقديم أُنشودتَين جديدتين كلّ أسبوع؛ وهي التجربةُ التي أسفرت عن عشرات الإصدارات الموسيقية التي حملت عنوان "في نادي الحديقة الساحرة".
وقبل أن ينقضي عقد الستينيات من القرن العشرين، قدّم صاحب كتاب "أناشيد للوطن" (2007) واحداً من أشهر الألحان الموسيقية، ويتعلّق بأغنية "أنا حُرّة في الجزائر" التي أدّتها الفنّانة الجنوب أفريقية مريم ماكيبا (1932 - 2008) عام 1969 بمناسبة احتضان الجزائر "المهرجان الثقافي الأفريقي".
إلى جانب ألحانه، أسهم بشيشي - الذي شارك في تأسيس "الأكاديمية العربية للموسيقى" عام 1971 وتولّى إدارة "المعهد الوطني للموسيقى" بين 1991 و1995 - بمعلوماته الغزيرة في التأريخ للفنّ الجزائري، خصوصاً في الجانب المتعلّق بالثورة الجزائرية والحركة الوطنية بين الحربَين العالميَّتين؛ حيثُ اعتُبر مرجعاً أساسياً في هذا المجال الذي برز فيه، ليس بالاعتماد على البحث فقط، بل بالاستناد إلى ذاكرته الشخصية، وهو الذي كان شاهداً على كثيرٍ من تفاصيل الثورة التحريرية. يُمكن الإشارة في هذا السياق إلى كتاب "تاريخ ملحمة نشيد قسماً: من إرهاصات ميلاده نشيداً للثورة الجزائرية إلى ترسيمه نشيداً رسمياً للجمهورية الجزائرية" (2008) الذي ألّفه بالاشتراك مع عبد الرحمن بن حميدة، وأيضاً إلى سيرته الذاتية التي صدرت عام 2015 بعنوان "مذكّرات الأمين بشيشي - الجدول والنهر".