ويتعلق الأمر بالعنف الذي يصاحب هذه الاحتجاجات، وليس الأمر مقتصراً على عُنف مثيري الشغب وبعض عناصر "السترات الصفراء" الغاضبة، التي تتعامل معها الحكومة، شرطة وعدالةً، بأقصى درجات التشدد والصرامة، آملة سنّ قانون أكثر زجراً في الأسابيع القادمة. بل أيضاً العنف الذي مارسته قوى الأمن، الذي ظلّت ترفض الاعتراف به، بل تجرأ وزير الداخلية كريستوف كاستانير، في لغة خشبية، على تأكيد أنه لم يرَ هذا العنف.
ومنذ بداية الحراك، أي منذ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني، امتلأت صفحات "الفيسبوك" التابعة لـ"السترات الصفراء" بصُوَر وشهادات تتحدث عن هذا العنف البوليسي المقصود، وتنقل صُوَر ضحايا هذا القمع؛ وجوه محطَّمَة وأصابع وأيد مقتلعة، وعيون فُقِئت.
ووصل الأمر إلى تنظيم بعض المتظاهرين لعمليات تبرّع مالية، لمساعدة بعض الضحايا على إجراء عمليات جراحية مكلفة. كما فتح أحد وجوه الحراك، إيريك دروري صندوق تبرعات لهؤلاء الجرحى.
وقبل أسبوعين، بدأت بعض الصحف الفرنسية تتحدث بشكل خجول عن هذه التجاوزات البوليسية، أي بعدما تقدَّم بعضُ الضحايا من المتظاهرين بشكوى ضد الحكومة لدى "المُدافع عن الحقوق"، وهي هيئة حقوقية مستقلة، يترأسها ألان توبون.
ويعزو كل المراقبين الحجم الكبير لهذه الخسائر البشرية، إلى استخدام الشرطة لرصاصات "فلاش بول" (قاذف رصاصات الدفاع)، التي تعتبرها الشرطة دفاعية، لكنها مسؤولة عن فقء عيون كثير من المتظاهرين وبتر أعضائهم وتشويه وجوههم.
وتجدر الإشارة إلى أن المدافع عن الحقوق طالَب في تقرير يعود إلى 10 يناير/ كانون الثاني 2018، بحظر هذا النوع من السلاح، دون أن يتلقى أي رد. وأمام هذه المستجدات المثيرة للقلق طالبَ هذا المسؤول، اليومَ الخميس، الحكومةَ بوقف هذا السلاح، بعد "اتضاح خطورته، اليوم". وأكد أنه طلب وقفاً مؤقتاً لاستخدام هذا السلاح، قبل سنة.
وعُلم من مصادر مختلفة أمس، أنه سُجِّلت 25 شكاية، بعضها جماعية، لدى "المدافع عن الحقوق"، منذ اندلاع "السترات الصفراء".
وعلى الرغم من أن 200 شخصية فرنسية طالبت، في بداية ديسمبر/ كانون الأول بحظر استخدام هذا السلاح، إلا أن المدير العام للإدارة العامة للشرطة الوطنية، إيريك مورفان، دافع عن حق استخدامه، مع المطالبة من رجاله بألا يستهدفوا الأماكن الحسّاسة من الجسم. وقد أطلقت الشرطة، في تظاهرات 1 ديسمبر/ كانون الأول 2018، لوحدها، 776 طلقة من هذا النوع من السلاح.
وقد أحصى موقع "Dérarmons- les" (لننزع سلاحهم)، وهو "تجمع ضد مختلف أنواع العنف الذي تمارسه الدولة" نحو 93 ضحية من "السترات الصفراء"، ومن الصحافيين الذين تعرضوا لهذا النوع من الرصاصات، منذ بداية الحراك، من بينهم 14 متظاهراً فقد إحدى عينيه.
وفي ما يخص موقف وزارة الداخلية، فهي تركز على الطابع العنفي للتظاهرات، وتشدد على أن استخدام هذا السلاح يتم في حالات الدفاع عن النفس والحفاظ على الأمن، أو حين لا يكون لأفراد الشرطة من وسيلة أخرى غير هذا السلاح.
ولكن ليس معنى هذا أن "شرطة الشرطة" لا تقوم بدورها، فإلى حدود 11 يناير/ كانون الثاني 2018، تلقت 207 إشعارات لإدانة العنف البوليسي، وهو ما أدى إلى فتح 71 تحقيقاً إضافة إلى تحقيق إداري، منذ اندلاع حراك "السترات الصفراء".
وقد أتاح موقع ميديا بارت الإخباري المجال، يوم 16 يناير/ كانون الثاني، أمام هؤلاء الجرحى من ضحايا العنف البوليسي، من أشخاص بُترت أيديهم؛ أنطوان يوديني بترت يده اليمنى، وفُقئت أعينُهم وحُطّمت وجوههم، للحديث عن أوضاعهم وتقديم شهاداتهم.
وينشر موقع "لننزع سلاحهم"، صُورَ العديد من ضحايا الاعتداءات البوليسية التي تكشف بعضها صفحات التواصل الاجتماعي، وتنشر بعضها في وسائل الإعلام الأخرى، ومن بينها صورة مهدي من باريس وقد أصيب في عينه، وأنطوان من بوردو وقد اقتلعت يده، وجيروم من باريس وقد فقد عينه، وغيرهم كثيرون.
وكدليل على صعوبة الاستمرار الرسمي في فرض قانون الصمت (أُومِرْتا) على رجال الأمن وتجاوزاتهم وممارستهم، أحياناً، لعنف لا يتناسب، غالباً، مع العنف الذي يمارسه متظاهرون، حالة متظاهر السترات الصفراء، أوليفيي. ب. الذي أصيب يوم السبت الماضي، 12 يناير/كانون الثاني في مدينة بوردو، ولا يزال في حال غيبوبة. وقد كشفت صحيفة فرانس-سوار الفرنسية الرقمية، عن قصة هذا المتظاهر، وهو رجل إطفاء أتى للتظاهر إلى جانب زوجته، ثم خرّ صريعاً وظل وحيداً ملقىً في الشارع دون أن يتلقى إسعافاً من قوى الشرطة. ويكشف الفيديو الذي نقل حالته، إطلاق قوات الأمن لرصاصات من قاذف رصاصات الدفاع، إضافة إلى استخدام قنبلة يدوية.
كما أن الشرطة الفرنسية الآن، في قفص الاتهام، خاصة مع ظهور فيديو شرطي متحمس، حديث عهد بحصوله على ميدالية جوقة شرف، وهو يوجّه الضربات لمتظاهر هادئ وسلمي. إذاً فالضحايا كُثُرٌ، وفي تزايد مع استمرار الاحتقان والتظاهرات، ولا يمكن التستر أكثر فأكثر.
أي لا مجال من تغيير استراتيجيات المواجهة مع المتظاهرين، وإلا فقدت الشرطة، التي يتنافَس معظم السياسيين على كسب وُدّها، الرصيدَ، رصيد الشعبية والتعاطف، الذي استعادته حين كانت، ولا تزال، رأسَ الحربة في مواجهة التهديدات الإرهابية والإجرامية، التي تستهدف فرنسا.