07 ديسمبر 2023
الأمم المتحدة في اليمن.. فشل أم مؤامرة؟
صار النواح ضد الأمم المتحدة -والحديث عن دورها المشبوه في اليمن- أمرا له شعبية متزايدة أخيرا، كما أنه صار يترافق مع أحاديث المؤامرة التي يميل إليها الطرف العاجز، في محاولةٍ غير مباشرة لتبرير عجزه، فتصاعدت الدعوات إلى إقالة المبعوث الأممي، مارتن غريفيث، بحجة تعاطفه مع الحوثيين، متجاهلين حقيقة أن الرجل، كأي طرف خارجي لا يمتلك قوة عسكرية على الأرض، لا يتعامل إلا مع واقع الأمر، واقع سيطرة الحوثي المطلقة، وتماسك جبهته وفاعلية أدائه، على الرغم من سوء مقاصده في مقابل عجز الحكومة وانقسام التحالف الداعم لها، وفوق هذا وذاك، وضع إنساني لا يحتمل.
تباهى الرئيس عبد ربه منصور هادي بأنه الرئيس الذي دعمه العالم، وانعقد مجلس الأمن في عاصمة بلده صنعاء لتأكيد دعمه المرحلة الانتقالية. وهذا التباهي أمر عجَب، لو يدري الرجل، أو يدرك، مدى خطورة تحول دولته ملفا دوليا، تتجاذبه النزاعات الإقليمية ومصالح الدول الكبرى. ما يزيد الأمر عجباً أنه تباهى أخيرا بهذا، غير مدرك أن السبب الرئيسي لما يجري حالياً في اليمن هو تدويل الأزمة، ولا يرى كيف استطاعت الانقلاب عليه جماعةٌ لا تعبأ بالعالم والأمم المتحدة، ولولا الدعم الإقليمي، لكان هادي رئيساً سابقاً.
تعاقب ثلاثة مبعوثين للأمم المتحدة على اليمن منذ 2011، والبلد تنحدر أوضاعه باضطراد، وتتهاوى فيه العملية السياسية حتى تلاشت. ثلاثة مبعوثين مع فرق موظفين تكنوقراط غير
يمنيين، ويجهلون أبسط الحقائق عن اليمن، فأولهم بلغ به التفاؤل من نجاحه في توقيع المبادرة الخليجية، إلى درجة أنه تحوّل إلى تبشيري يوزع الأوهام، معتبراً أن جلوس اليمنيين إلى طاولة الحوار معجزة، لا يعلم أن اليمنيين تحاوروا بقدر ما تحاربوا. ثانيهم ظل حائراً يتخبّط بعد فشله في مفاوضات الكويت، وتعقد الملف اليمني بشكلٍ اتضح فيه أن مرجعيات الحل اليمني، المطروحة من مبادرةٍ خليجيةٍ وقراراتٍ أمميةٍ ونتائج مؤتمر الحوار الوطني، تجاورتها الحرب التي طالت وتشعبت. أما الأخير والملهوف على أي نجاح شخصي إلى درجة الخفّة، فمرة يعلن مفاوضاتٍ لا يصل فيها فريق المتفاوضين من صنعاء لأسباب لوجستية، المفروض أن فريقه يعرفها جيداً من سلفه، ثم مرة أخرى يعقد المفاوضات، ويعلن، في آخر لحظة، عن اتفاق الحديدة الذي لا تفاصيل فيه ولا تفسيرات. وهنا بلغ الجهل باليمن مداه، عندما أعلن المفاوض الأممي الجديد عن نجاحه العظيم في جعل الفريقين يجلسان إلى طاولة واحدة، ويتصافحان.
كان التدخل الأممي افتتاحا لمرحلة خطيرة في الحياة السياسية اليمنية التي تزخر بتجارب الوساطة المحلية، وكان اليمن، على عكس بقية دول الربيع العربي آنذاك، فيه أحزاب ذات حضور وحراك سياسي نشط، كان يمكن البناء عليهما، لكن هذا كله تعطل، بسبب التدخل الخارجي الكثيف. ومن اللافت استسلام النخبة اليمنية لهذا التدخل السافر، بما يشبه الرغبة في عدم تحمّل مسؤولية ما يجري واستسهال التواكل على الخارج، هذا قد تفسّره حالة الشيخوخة التي وصلت إليها قيادات الأحزاب، وعدم مواكبتها التطورات.
هكذا أصبحت السياسة اليمنية تتجه من الخارج إلى الداخل، لتنشأ ظاهرة أولاد السفارات، وهي نخبة شابة صعدت ضمن تمثيل قوى الشباب والمجتمع المدني والنساء، معظمها تنحصر إمكاناتها في معرفتها باللغة الإنكليزية، ما يسهل التواصل مع موظفي السفارات الغربية، وتقديم حلول تكنوقراطية وبسيطة للأزمة اليمنية العميقة جدا، والتي تحتاج جهوداً كبيرة من القوى المحلية الفاعلة، والمؤثرة، في بلدٍ يعاني من تشتت سكاني، ومعظم سكانه مقيمون في الريف، بما يصل إلى قرابة 70%، ما يعني أن هذه النخبة المقيمة في المدن، والمشغولة بالتواصل مع الخارج، منفصلة عن واقع الحال اليمني، حيث تؤثر بالمجتمع قوى اجتماعية وسياسية مغيبة، ومستبعدة من صناع القرار السياسي في العاصمة صنعاء.
مما يزيد تدخلات الأمم المتحدة سوءاً، أن النجاح أو الفشل فيها لا يعلق على دولة، بل يتم
تمييعها، فحتى الدول المتحكّمة بالقرار الأممي، لو أرادت حسم صراع، سياسياً أو عسكرياً، لتدخلت بنفسها ولما كانت استدعت الأمم المتحدة إلا غطاء شرعيا، وليس أداة حل حقيقية. هذا مختلف عن حالة التدخلات الإقليمية أو الدولية، فأي دولةٍ تعتبر نجاح أية وساطة محسوبا على دبلوماسيتها، ولو كانت دولة مجاورة، فهي تتدخل لتحقيق مصالحها، وقربها قد يساعدها في الحفاظ على منجزها.
يخفف التدخل الأممي حدّة الصراع، ويطيله، إذ يعرقل أية إمكانية لحسمه، هذا ما عبر عنه المبعوث الأممي، الأخضر الإبراهيمي، إلى اليمن في حرب 1994، عندما شرح سبب عرقلته لتدويل الأزمة اليمنية، فقال إن الصراع اتجه إلى الحسم العسكري، ولم يعد يحتاج وساطة. والإبراهيمي كان ذا خلفية سياسية ثقيلة، تعي جيداً أن حسم الصراع، كيفما كان، خير من إطالته وتدويله.
تمنع التدخلات الأممية أيضاً احتمالية الوساطة الداخلية التي تكون أكثر واقعية وتركيزاً على جبر الضرر والتعايش بشكلٍ يتجاوز تقسيمات الحرب. فعلى سبيل المثل، كانت حرب البوسنة والهرسك، التي استمرت أربعة أعوام، أنجح نموذج أممي لإنهاء صراعٍ. كانت نتيجة اتفاق وقف الحرب في البوسنة والهرسك تكريس الانقسام، ووضع البلد تحت وصاية دولية، يحكمه المندوب السامي الذي يعيّنه الاتحاد الأوروبي، وتحت سلطته مجلس الرئاسة المكون من ثلاثة أفراد، يمثلون المجموعات العرقية والدينية المختلفة، بغض النظر عن التفاوت بين أعداد كل مجموعةٍ، إذ يتساوى تمثيل الأغلبية مع الأقلية، وكل جماعةٍ تنتخب ممثلها في مجلس الرئاسة، حسب انتمائه العرقي والديني، وليس برنامجه السياسي.
عادةً، يؤسس التدخل الأممي ما تسمى ديمقراطية، لكنها ليست أكثر من صندوق اقتراع في تمثيل سياسي مذهبي أو عرقي بنسب ثابتة، لا يقبل المنافسة السياسية، بل يرتكز على الانقسام الاجتماعي. وتعيق هذه الكوتا السياسية أي تطور سياسي أو تنموي، ويعمق الانقسام المجتمعي أكثر من الحرب، كما تبالغ الاتفاقات الأممية في حماية الأقليات، على حساب الأغلبية التي يصبح تمثيلها ضعيفاً قياساً بعددها.
لا تمتلك الأمم المتحدة تجربةً ناجحة، يمكن القياس عليها، حتى نتصور لها أداءً مختلفا في
اليمن، لكنها أصبحت شماعة للفشل اليمني، فمن اللافت أن أكثر المتحمسين لتغيير المبعوث الأممي هم اليمنيون الممثلون للأطراف المسؤولة عن الأزمة، والتي هي أوْلى بالتغيير. وعلى من ينتقد الأمم المتحدة، ويحمّلها وزر تعثر الحرب والسلم، أن يعي ثلاثة أمور: أولها أن هناك جهلاً حقيقياً بتعقيدات الوضع اليمني، منتشراً في الأوساط الدولية، وهو جهل مترافق مع تعالٍ واضح على اليمنيين. ثانيها تدخلات الأمم المتحدة تأتي على أساس الأمر الواقع، وليس تطبيق قرارات الأمم المتحدة، فهذه القرارات ليست نهائية، بل قد تتغير وتتكيف مع وقائع الأرض التي يفرضها الوضع العسكري والسياسي للأطراف المتنازعة. وأخيراً لن يحل المشكلة اليمنية من جذورها سوى اليمنيين، ما عدا ذلك وهم، لذا تظل تصورات المعوّلين على الخارج مغلوطة ومبالغا فيها بشأن قدرات الأطراف الخارجية على تغيير الوضع اليمني، إلى الأسوأ أو إلى الأحسن.
تباهى الرئيس عبد ربه منصور هادي بأنه الرئيس الذي دعمه العالم، وانعقد مجلس الأمن في عاصمة بلده صنعاء لتأكيد دعمه المرحلة الانتقالية. وهذا التباهي أمر عجَب، لو يدري الرجل، أو يدرك، مدى خطورة تحول دولته ملفا دوليا، تتجاذبه النزاعات الإقليمية ومصالح الدول الكبرى. ما يزيد الأمر عجباً أنه تباهى أخيرا بهذا، غير مدرك أن السبب الرئيسي لما يجري حالياً في اليمن هو تدويل الأزمة، ولا يرى كيف استطاعت الانقلاب عليه جماعةٌ لا تعبأ بالعالم والأمم المتحدة، ولولا الدعم الإقليمي، لكان هادي رئيساً سابقاً.
تعاقب ثلاثة مبعوثين للأمم المتحدة على اليمن منذ 2011، والبلد تنحدر أوضاعه باضطراد، وتتهاوى فيه العملية السياسية حتى تلاشت. ثلاثة مبعوثين مع فرق موظفين تكنوقراط غير
كان التدخل الأممي افتتاحا لمرحلة خطيرة في الحياة السياسية اليمنية التي تزخر بتجارب الوساطة المحلية، وكان اليمن، على عكس بقية دول الربيع العربي آنذاك، فيه أحزاب ذات حضور وحراك سياسي نشط، كان يمكن البناء عليهما، لكن هذا كله تعطل، بسبب التدخل الخارجي الكثيف. ومن اللافت استسلام النخبة اليمنية لهذا التدخل السافر، بما يشبه الرغبة في عدم تحمّل مسؤولية ما يجري واستسهال التواكل على الخارج، هذا قد تفسّره حالة الشيخوخة التي وصلت إليها قيادات الأحزاب، وعدم مواكبتها التطورات.
هكذا أصبحت السياسة اليمنية تتجه من الخارج إلى الداخل، لتنشأ ظاهرة أولاد السفارات، وهي نخبة شابة صعدت ضمن تمثيل قوى الشباب والمجتمع المدني والنساء، معظمها تنحصر إمكاناتها في معرفتها باللغة الإنكليزية، ما يسهل التواصل مع موظفي السفارات الغربية، وتقديم حلول تكنوقراطية وبسيطة للأزمة اليمنية العميقة جدا، والتي تحتاج جهوداً كبيرة من القوى المحلية الفاعلة، والمؤثرة، في بلدٍ يعاني من تشتت سكاني، ومعظم سكانه مقيمون في الريف، بما يصل إلى قرابة 70%، ما يعني أن هذه النخبة المقيمة في المدن، والمشغولة بالتواصل مع الخارج، منفصلة عن واقع الحال اليمني، حيث تؤثر بالمجتمع قوى اجتماعية وسياسية مغيبة، ومستبعدة من صناع القرار السياسي في العاصمة صنعاء.
مما يزيد تدخلات الأمم المتحدة سوءاً، أن النجاح أو الفشل فيها لا يعلق على دولة، بل يتم
يخفف التدخل الأممي حدّة الصراع، ويطيله، إذ يعرقل أية إمكانية لحسمه، هذا ما عبر عنه المبعوث الأممي، الأخضر الإبراهيمي، إلى اليمن في حرب 1994، عندما شرح سبب عرقلته لتدويل الأزمة اليمنية، فقال إن الصراع اتجه إلى الحسم العسكري، ولم يعد يحتاج وساطة. والإبراهيمي كان ذا خلفية سياسية ثقيلة، تعي جيداً أن حسم الصراع، كيفما كان، خير من إطالته وتدويله.
تمنع التدخلات الأممية أيضاً احتمالية الوساطة الداخلية التي تكون أكثر واقعية وتركيزاً على جبر الضرر والتعايش بشكلٍ يتجاوز تقسيمات الحرب. فعلى سبيل المثل، كانت حرب البوسنة والهرسك، التي استمرت أربعة أعوام، أنجح نموذج أممي لإنهاء صراعٍ. كانت نتيجة اتفاق وقف الحرب في البوسنة والهرسك تكريس الانقسام، ووضع البلد تحت وصاية دولية، يحكمه المندوب السامي الذي يعيّنه الاتحاد الأوروبي، وتحت سلطته مجلس الرئاسة المكون من ثلاثة أفراد، يمثلون المجموعات العرقية والدينية المختلفة، بغض النظر عن التفاوت بين أعداد كل مجموعةٍ، إذ يتساوى تمثيل الأغلبية مع الأقلية، وكل جماعةٍ تنتخب ممثلها في مجلس الرئاسة، حسب انتمائه العرقي والديني، وليس برنامجه السياسي.
عادةً، يؤسس التدخل الأممي ما تسمى ديمقراطية، لكنها ليست أكثر من صندوق اقتراع في تمثيل سياسي مذهبي أو عرقي بنسب ثابتة، لا يقبل المنافسة السياسية، بل يرتكز على الانقسام الاجتماعي. وتعيق هذه الكوتا السياسية أي تطور سياسي أو تنموي، ويعمق الانقسام المجتمعي أكثر من الحرب، كما تبالغ الاتفاقات الأممية في حماية الأقليات، على حساب الأغلبية التي يصبح تمثيلها ضعيفاً قياساً بعددها.
لا تمتلك الأمم المتحدة تجربةً ناجحة، يمكن القياس عليها، حتى نتصور لها أداءً مختلفا في