الألمان المخبولون
غادرتُ دمشق في صيفٍ شديد القسوة. وفي الطائرة، كان جلدي يشع حرارة طوال وقت الرحلة. جلدي الذي صبغته الشمس خلال الأشهر السابقة بسمرة داكنة تميز عوام شعبنا، تصيب الوجه والرقبة والذراعين وتتباين بشدة مع لون المغطى من الجسد.
عندما وصلت إلى برلين كانت الحرارة قد هبطت للنصف، ولم أحتج لأكثر من يومين لأصطدم بأول شيء غريب عما عهدته: لدى الألمان هوس شديدٌ بالشمس!
لا تكاد الشمس تطلع حتى ينبثق الألمان من كل الزوايا وينبطحون على الأرصفة وفي الحدائق. موظفون وطلاب وعائلات تتحول ملابسهم الطبيعية فجأة تحت الشمس إلى ملابس صيفية خفيفة، وأحياناً خفيفة جداً. وتراهم يفرشون فجأة عدّة النزهة ويدهنون أجسامهم بالواقيات الشمسية، وما أن يتبدل الطقس ويمطر حتى يختفوا من جديد. تكرر هذا المشهد أمامي في أول يومين عدة مرات تبدل فيهما الطقس بين مطر وشمس. وقتها اتصل صديق لي من دمشق يطمئن وسألني "كيف رأيتَ الألمان؟". أجبتُ: "مخبولون الألمان، كأنهم لم يروا شمساً في حياتهم!".
حدث ذلك قبل زمن، أما الآن وبعد ثلاث سنوات ونصف قضيتُ معظمها في الشمال الغائم الماطر حيث الصيف يأتي ثلاثة أيام في السنة، وحيث تمكنتُ من السباحة في البحر القريب مرتين فقط طوال هذه المدة، غدا لجلدي لونٌ واحدٌ شاحبٌ وغدا لدي عشقٌ غريبٌ للشمس، إن طلعتْ أطلع، سواء من المنزل أو من العمل، أقطع طعامي أو فيلماً أشاهده، وأبرمج استراحات عملي كي تلتقي بخيوطها، ولأن عقد عملي سينتهي بعد زمنٍ ليس بالبعيد، بدأت منذ الآن أتابع النشرات الجوية وأقرأ التقارير وأبحث عن أكثر المناطق دفئاً؛ ومستقبلاً عندما يسألني الشيف الجديد عن سبب قدومي لمشفاه سأشرح له عن أهمية قسمه وتطوره ورغبتي في التعلم تحت يديه شخصياً، وبالطبع لن أقول له إن السبب الوحيد لقدومي لمشفاه دون غيره هو وجوده في أكثر البقع دفئاً في ألمانيا حيث فرصة لقائي بغاليتي الشمس أكبر.
أظنني أصبحت مخبولاً أنا الآخر.