30 أكتوبر 2024
الأقليات والتطييف والثورة في سورية (2 - 2)
لم تنجح قوى الثورة السورية، ولا قوى الأكثرية المذهبية: السنّة، في اختبار مقاومة الاستدراج إلى فخ الطائفية، فانزلق بعض أبنائها إلى موقف طائفي، وراح تحت المعاناة الدامية، والألم الشديد الذي ترتب على وحشية النظام وقواته (الجيش والمخابرات والشبيحة والمليشيات الشيعية التي جاءت من دول عربية وغير عربية للمشاركة في القتال إلى جانب النظام ضد الثورة)، وهول الصدمات التي أحدثتها صور الأطفال والنساء والشيوخ المذبوحين، والجثث الممزقة والممثل بها، والصبايا المغتصبات، راح يهاجم الطوائف الموالية للنظام، وخصوصاً طائفتي العلوية والشيعة. الأولى كونها طائفة رئيس النظام، ومصدر عناصر قوة بطشه المباشرة. والثانية كونها طائفة حلفائه في إيران والعراق ولبنان (حزب الله) وامتداداتهما في العالم الإسلامي، ومصدر الدعم المباشر العسكري والفني والمالي، والدخول في مناكفاتٍ صبيانيةٍ عبر تسميات الجُمَع، والكتائب فيما بعد، بأسماء تعكس فرزًا طائفيًّا، أو رفع شعارات وهتافات استفزازية، مثل الهتاف الذي أُطلق في بعض أحياء حمص: "قرداحة جني جني؛ راح يحكمك سني"، وحملات شتائم وتهديدات فيسبوكية لهذه الطوائف.
ومع ذلك، يمكن ملاحظة بقاء هذه النزعة الطائفية لدى الأكثرية السنية عند حدود الهجوم اللفظي، في الغالب الأعم، والقليل من الفعل المباشر: خطف بعض العلويين والعلويات للمبادلة بمخطوفين من السنة، وهجمات انتقامية على الأحياء العلوية، في حمص خصوصاً، حيث أخذت وحشية النظام صورتها الأقسى والأبشع، في لحظة توتر وهياج، إثر حصول قصف أو اقتحام، واعتقالات واسعة.. إلخ، وخطف بعض اللبنانيين والإيرانيين في سعي إلى تقديم قرائن على اشتراك حزب الله وإيران في الصراع، بدليل وجود هؤلاء الأتباع في سورية، في هذا الوقت وهذا المكان.
أدوار للجهاديين والإعلام
وقد أضاف ظهور الحركات "الجهادية" بُعداً متفجراً على المشهد الديني والطائفي، حيث أثارت البرامج والمشاريع السياسية لهذه الحركات التي ترتكز إلى الفكر السلفي، بمنطلقاته العقائدية والسياسية، من "الولاء والبراء" إلى إقامة دولة إسلامية، دولة الخلافة بصورتها التقليدية التي تُحكّم الخليفة بالرعية، وسياستها المحكومة بمعايير متشددة، بما في ذلك قتل المرتد ورجم الزاني وقطع يد السارق ... إلخ، أثارت هواجس ومخاوف أتباع الديانة المسيحية وأتباع المذاهب الإسلامية التي يعتبرها الفكر السلفي مخالفة أو خارجة على صحيح الدين، أو منحرفة، ويربط قبولها في مجتمع الدولة الإسلامية بعودتها إلى الإسلام، أي الانتماء إلى المذهب السني. وزاد ظهور جبهة النصرة و"داعش" وممارساتهما الوحشية ضد أبناء الديانة المسيحية (خطف رجال دين ونزع الصلبان عن الكنائس ومنع قرع الأجراس) والمذاهب الإسلامية غير السنية
من القتل، مثل جريمة اشتبرق التي راح ضحيتها عشرات المواطنين من أتباع المذهب العلوي، وقلب لوزة التي راح ضحيتها عشرون مواطناً من الموحدين الدروز، والذبح والصلب والسبي والتعليق والجلد ومصادرة الأملاك والأموال وفرض مسطرة سلوك على المواطنين كافة، يحدد نمط اللباس والسير في الأسواق وزيارة الأطباء والتنقل بين المحافظات ويمنع التدخين... إلخ، في تعميق هذه الهواجس والمخاوف وتعظيمها، وفي تصعيد الكراهية والعداء والمفاصلة بين أبناء الشعب الواحد، والدين الواحد كذلك.
هذا من دون أن ننسى الإشارة إلى الدور الذي لعبه الإعلام، المرئي خصوصاً، في تصعيد التوتر الطائفي في سورية من خلال الفضائيات (وصال والصفا والمجد وصلة والرسالة السنية، وأهل البيت، والنعيم، والغدير، والمنار الشيعية) التي تعج بأحاديث التكفير لأبناء الطوائف الأخرى، ونقل فتاوى تحث على الكراهية المذهبية، والتحريض على العنف الطائفي (فتاوى عدنان العرعور ومقولة: الدم السني واحد، وأحاديث بعض رجال الدين الشيعة المحرِّضة على الكراهية وتحليل قتل أطفال السنَّة)، أو باستضافة مواطنين أو شهود عيان ونشطاء ميدانيين، ليس لهم ثقافة سياسية، ويعانون من ضغط نفسي، بسبب معايشتهم القتل والدمار ومقتل الأهل والأحبة وسؤالهم عن الدوافع وراء القتل والمجازر وعمليات الذبح التي يرتكبها النظام ضدهم ومبرراتها، فلا يجدون إلا السبب المذهبي، أو كما عبَّر أحدهم: "عم يقتلونا لأنو عم نهتف: قائدنا سيدنا محمد"، مدخلاً متوهماً من إدارة هذه الفضائيات، هدفه جذب قطاعات شعبية إلى المشاركة في الثورة.
هذا بالإضافة إلى سلوك دول إقليمية وحركات سلفية وشخصيات وتعاطيها مع الثوار بمعايير تنسجم مع توجهاتها المذهبية، عبر توجيه الدعم والمساعدات المالية والإغاثية والعسكرية إلى جهات بعينها، والدفع باتجاه تمكينها، ووضعها في صدارة المشهد السياسي، واستخدام دول كبرى للتحريض الطائفي ضد إيران الشيعية، تكتيكاً لعزلها ومحاصرتها وإضعافها وضرب نفوذها في الإقليم، وانعكاس ذلك على صورة الثورة والثوار من جهة، وتداعياتها على المجتمع السوري، من جهة ثانية. غير أن الصراع الطائفي، كما ذكرنا أعلاه، سابق على الثورة السورية بعقود، والذي يحصل فيها ليس أكثر من ارتدادات للشحن والتوتير الذي شهدته المنطقة، قبل ذلك بفترة طويلة، بدأت مع تحرك الغرب ضد الدولة العثمانية، نهاية القرن التاسع عشر، وحصول دول (فرنسا، بريطانيا، روسيا)، قبل أن تدخل الدولة الوليدة الولايات المتحدة الحلبة عبر التبشير بالمذهب البروتستانتي، على امتيازات تجارية وقانونية، بما فيها حقوق حماية الأقليات الدينية والمذهبية (كل دولة حصلت على حماية طائفة من الطوائف المسيحية، ولمّا لم تجد بريطانيا طائفة مسيحية مرتبطة بالمذهب الانجليكاني السائد فيها، أخذت حق حماية طائفة أخرى، هي الموحدون/الدروز (واستخدام هذه الامتيازات والحماية في ابتزاز الدولة العثمانية واحتواء وضرب تحرك محمد علي باشا والي مصر الطموح، إلى حكم الدولة العثمانية، وهي المرحلة التي شهدت انطلاق المشاعر والعواطف المتضاربة والعدائية، نتيجة هيمنة المسيحيين على الاقتصاد، وحصولهم على المناصب والوكالات التجارية والتعليم... إلخ، وانفجار صراعات ومواجهات دامية بين المسيحيين والدروز في العام 1860، وتنقل العشائر بين الأديان والمذاهب للاستفادة من الحماية، وللحصول على مكاسب مادية مباشرة: الاستقلال عن الدولة العثمانية في ولايات مستقلة، جبل لبنان أيام المعنيين والشهابيين (يمكن العودة إلى كتاب القنصل الروسي في بيروت، قسطنطين بازيلي، في تلك الفترة "سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني"، دار التقدم في موسكو عام 1989، وكتاب دومينيك شوفالييه "مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية في أوروبا"، نقلته عن الفرنسية منى عبدالله، دار النهار عام 1994)، قبل أن تتفق الدول الكبرى على اقتسام تركة الرجل المريض، وتقضي على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
مسار ممتد
لم تنته الأمور عند الامتيازات والحماية، بل دخلت مرحلة أعقد وأخطر مع اتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمو وسيفر ولوزان ووعد بلفور، وعهود الانتداب، حيث القاعدة الاستعمارية للسيطرة: فرِّقْ تَسُد، وإطلاق آلية التفتيت عبر تقسيم سورية إلى دول طائفية، وتحريض البريطانيين الآشوريين على التمرد على السلطة في العراق، واستثمار قضية حقوق الشعب الكردي في الصراع على النفوذ بين الغرب والاتحاد السوفييتي، وسعي إسرائيل إلى تفتيت دول الجوار على أساس ديني ومذهبي، لتبرير قيام دولة إسرائيل على أساس ديني من جهة، ولإضعاف هذه الدول من جهة ثانية (دراسة يديد ينوون: استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات، منشورة ملحق في كتاب عصمت سيف الدولة "دفاع عن ثورة مصر العربية"، القاهرة، دار المستقبل العربي 1990).
مع معركة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، وقيام الدولة الوطنية، عادت الأوضاع إلى
التعايش والتفاهم، فقد أطلقت معركة الاستقلال دينامية وحدوية، كرّست حالة وحدة واندماج وطني، جسدتها الثورة السورية الكبرى التي جمعت سلطان باشا الأطرش الدرزي والشيخ صالح العلي العلوي وإبراهيم هنانو وحسن الخراط ومحمد الأشمر السُّنَّة، الأول من أصول كردية، والتي امتدت إلى الجلاء والاستقلال، وقيام حكم وطني رئيس وزرائه فارس الخوري المسيحي الذي اختارته الأغلبية المسلمة، قبل أن تعود مرحلة الاستبداد التي دشنتها الأنظمة "التقدمية" بتبني عقائد سياسية، وتحويلها إلى دين للدولة، وفرضها على المجتمع، وإطلاق دينامية معاكسة، تفتيتية وتدميرية، هدفها إضعاف المجتمع من أجل إحكام السيطرة عليه، والتحكم بإيقاع حياة أبنائه وردود أفعالهم.
أما الموجة الحديثة من التطييف والتوتر وانطلاق الصراعات المباشرة بين المذاهب، خصوصاً السنّة والشيعة، فقد انفجرت في ضوء حدثين إقليميين: الثورة الإيرانية واحتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان. الأول، عبر اعتماد إيران نظام ولاية الفقيه، واعتبار دستورها المذهب الجعفري الاثني عشري ديناً للدولة، وتبني سياسة تصدير الثورة، والولاية على الشيعة أينما كانوا، وبغضِّ النظر عن أعراقهم وأوطانهم، والعمل على استتباعهم، وما نجم عنها من توترات وحروب. الحرب العراقية الإيرانية، وتوتير المناخ بين السنة والشيعة، وتفجير المشاعر الطائفية، ووضع اليد على المواقع التاريخية والمزارات التي يقدسها الشيعة، مثل مزار السيدتين زينب ورقية في دمشق، وقبر أويس القرني في الرقة، لربط ممارسة هذه الطقوس بالنظام الإيراني، والسيطرة على الدورة الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بها، والتحكم بمشاعر أبناء الطائفة وعواطفهم، والعمل على نشر التشيع عبر التبشير وبذل المال بسخاء في الدول الإسلامية المجاورة (سورية، مصر، السودان، تونس، المغرب) وسيلة لإيجاد نفوذ، والحصول على موطئ قدم في هذه الدول، وتشكيل لوبيات ومليشيات مسلحة داخلها، تلعب دور "حصان طروادة" أو "طابور خامس" في خدمة النظام الإيراني. وقد قال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، إنه خلق 10 إيرانات خارج إيران، وهذا استدعى تصعيداً في المشاعر الطائفية ونبش الماضي بكل مآسيه.
إبّان قيام الثورة الإيرانية، نشر شاعر شيعي قصيدة في مجلة الشراع، مجلة حزب الاتحاد الاشتراكي الناصري القومي، استعرض فيها المواقع والمذابح التي تعرض لها المسلمون الشيعة على أيدي جيوش الخلافة السنية، وختمها بعبارة استفزازية: "سنجمع دَيْن التاريخ كله ونأخذه دفعة واحدة".
الحدث الثاني هو الاحتلال السوفييتي أفغانستان، فعبْر توظيف الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين (السعودية وباكستان) العامل الديني لحشد المقاتلين والممولين وراء حركات الجهاد الأفغاني، وما ترتب عليه من نتائج: ولادة تنظيم القاعدة وما يمثله من ثقافة وسياسة تكفير الحكام والمذاهب الإسلامية غير السنية، وخصوصاً الشيعة، وانطلاق نشاطات تنظيمية وعسكرية في دول عربية وإسلامية على خلفية تحريرها من الحكام الكفرة، وتطبيق الشريعة قبل تبنيها استراتيجية محاربة العدو البعيد (الكفار واليهود) أولاً، وتنفيذ عمليات إرهابية كثيرة وكبيرة، في عدد من دول العالم ضد المصالح الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، بما فيها "غزوة" نيويورك في 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، والرد على احتلال الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، وبدء الانتقام من الشيعة في العراق "لدورهم" في هذا الاحتلال، قبل تحوله إلى تنظيمات شبه مستقلة (القاعدة في الجزيرة العربية، القاعدة في بلاد الرافدين الذي تحول إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، وأعلن تأسيس دولة خلافة على الأراضي التي احتلها في سورية والعراق، ومبايعته من حركات جهادية في مصر وليبيا وأفغانستان ونيجيريا، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتنظيم الشباب في الصومال).
هل ستنجح الثورة السورية، كما فعلت القوى الوطنية السورية في مرحلة التحرر من الاستعمار، في إعادة التوازن إلى المجتمع السوري، وإعادة الاعتبار إلى منطلقاتها السياسية والأخلاقية، ثورة حرية وكرامة، وتحقيق النصر على النظام الاستبدادي وعلى النزوع السلبي نحو التمييز الديني والمذهبي الذي انتشر مثل طفح جلدي على سطحها، وتنفيذ برنامجها للمرحلة الانتقالية، القاضي بمنع الفوضى والانتقام، أو الاقتتال الطائفي وتحقيق عدالة انتقالية على قاعدة المصارحة والمصالحة بسلاسة ويسر، وإقامة نظام ديمقراطي على قاعدة المواطنة، وإشاعة العدل والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن العرق والجنس واللون والدين والمذهب، في ظل سيادة القانون، مدخلاً لتكريس دينامية توحيدية واندماج وطني. إنها مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة.
ومع ذلك، يمكن ملاحظة بقاء هذه النزعة الطائفية لدى الأكثرية السنية عند حدود الهجوم اللفظي، في الغالب الأعم، والقليل من الفعل المباشر: خطف بعض العلويين والعلويات للمبادلة بمخطوفين من السنة، وهجمات انتقامية على الأحياء العلوية، في حمص خصوصاً، حيث أخذت وحشية النظام صورتها الأقسى والأبشع، في لحظة توتر وهياج، إثر حصول قصف أو اقتحام، واعتقالات واسعة.. إلخ، وخطف بعض اللبنانيين والإيرانيين في سعي إلى تقديم قرائن على اشتراك حزب الله وإيران في الصراع، بدليل وجود هؤلاء الأتباع في سورية، في هذا الوقت وهذا المكان.
أدوار للجهاديين والإعلام
وقد أضاف ظهور الحركات "الجهادية" بُعداً متفجراً على المشهد الديني والطائفي، حيث أثارت البرامج والمشاريع السياسية لهذه الحركات التي ترتكز إلى الفكر السلفي، بمنطلقاته العقائدية والسياسية، من "الولاء والبراء" إلى إقامة دولة إسلامية، دولة الخلافة بصورتها التقليدية التي تُحكّم الخليفة بالرعية، وسياستها المحكومة بمعايير متشددة، بما في ذلك قتل المرتد ورجم الزاني وقطع يد السارق ... إلخ، أثارت هواجس ومخاوف أتباع الديانة المسيحية وأتباع المذاهب الإسلامية التي يعتبرها الفكر السلفي مخالفة أو خارجة على صحيح الدين، أو منحرفة، ويربط قبولها في مجتمع الدولة الإسلامية بعودتها إلى الإسلام، أي الانتماء إلى المذهب السني. وزاد ظهور جبهة النصرة و"داعش" وممارساتهما الوحشية ضد أبناء الديانة المسيحية (خطف رجال دين ونزع الصلبان عن الكنائس ومنع قرع الأجراس) والمذاهب الإسلامية غير السنية
هذا من دون أن ننسى الإشارة إلى الدور الذي لعبه الإعلام، المرئي خصوصاً، في تصعيد التوتر الطائفي في سورية من خلال الفضائيات (وصال والصفا والمجد وصلة والرسالة السنية، وأهل البيت، والنعيم، والغدير، والمنار الشيعية) التي تعج بأحاديث التكفير لأبناء الطوائف الأخرى، ونقل فتاوى تحث على الكراهية المذهبية، والتحريض على العنف الطائفي (فتاوى عدنان العرعور ومقولة: الدم السني واحد، وأحاديث بعض رجال الدين الشيعة المحرِّضة على الكراهية وتحليل قتل أطفال السنَّة)، أو باستضافة مواطنين أو شهود عيان ونشطاء ميدانيين، ليس لهم ثقافة سياسية، ويعانون من ضغط نفسي، بسبب معايشتهم القتل والدمار ومقتل الأهل والأحبة وسؤالهم عن الدوافع وراء القتل والمجازر وعمليات الذبح التي يرتكبها النظام ضدهم ومبرراتها، فلا يجدون إلا السبب المذهبي، أو كما عبَّر أحدهم: "عم يقتلونا لأنو عم نهتف: قائدنا سيدنا محمد"، مدخلاً متوهماً من إدارة هذه الفضائيات، هدفه جذب قطاعات شعبية إلى المشاركة في الثورة.
هذا بالإضافة إلى سلوك دول إقليمية وحركات سلفية وشخصيات وتعاطيها مع الثوار بمعايير تنسجم مع توجهاتها المذهبية، عبر توجيه الدعم والمساعدات المالية والإغاثية والعسكرية إلى جهات بعينها، والدفع باتجاه تمكينها، ووضعها في صدارة المشهد السياسي، واستخدام دول كبرى للتحريض الطائفي ضد إيران الشيعية، تكتيكاً لعزلها ومحاصرتها وإضعافها وضرب نفوذها في الإقليم، وانعكاس ذلك على صورة الثورة والثوار من جهة، وتداعياتها على المجتمع السوري، من جهة ثانية. غير أن الصراع الطائفي، كما ذكرنا أعلاه، سابق على الثورة السورية بعقود، والذي يحصل فيها ليس أكثر من ارتدادات للشحن والتوتير الذي شهدته المنطقة، قبل ذلك بفترة طويلة، بدأت مع تحرك الغرب ضد الدولة العثمانية، نهاية القرن التاسع عشر، وحصول دول (فرنسا، بريطانيا، روسيا)، قبل أن تدخل الدولة الوليدة الولايات المتحدة الحلبة عبر التبشير بالمذهب البروتستانتي، على امتيازات تجارية وقانونية، بما فيها حقوق حماية الأقليات الدينية والمذهبية (كل دولة حصلت على حماية طائفة من الطوائف المسيحية، ولمّا لم تجد بريطانيا طائفة مسيحية مرتبطة بالمذهب الانجليكاني السائد فيها، أخذت حق حماية طائفة أخرى، هي الموحدون/الدروز (واستخدام هذه الامتيازات والحماية في ابتزاز الدولة العثمانية واحتواء وضرب تحرك محمد علي باشا والي مصر الطموح، إلى حكم الدولة العثمانية، وهي المرحلة التي شهدت انطلاق المشاعر والعواطف المتضاربة والعدائية، نتيجة هيمنة المسيحيين على الاقتصاد، وحصولهم على المناصب والوكالات التجارية والتعليم... إلخ، وانفجار صراعات ومواجهات دامية بين المسيحيين والدروز في العام 1860، وتنقل العشائر بين الأديان والمذاهب للاستفادة من الحماية، وللحصول على مكاسب مادية مباشرة: الاستقلال عن الدولة العثمانية في ولايات مستقلة، جبل لبنان أيام المعنيين والشهابيين (يمكن العودة إلى كتاب القنصل الروسي في بيروت، قسطنطين بازيلي، في تلك الفترة "سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني"، دار التقدم في موسكو عام 1989، وكتاب دومينيك شوفالييه "مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية في أوروبا"، نقلته عن الفرنسية منى عبدالله، دار النهار عام 1994)، قبل أن تتفق الدول الكبرى على اقتسام تركة الرجل المريض، وتقضي على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
مسار ممتد
لم تنته الأمور عند الامتيازات والحماية، بل دخلت مرحلة أعقد وأخطر مع اتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمو وسيفر ولوزان ووعد بلفور، وعهود الانتداب، حيث القاعدة الاستعمارية للسيطرة: فرِّقْ تَسُد، وإطلاق آلية التفتيت عبر تقسيم سورية إلى دول طائفية، وتحريض البريطانيين الآشوريين على التمرد على السلطة في العراق، واستثمار قضية حقوق الشعب الكردي في الصراع على النفوذ بين الغرب والاتحاد السوفييتي، وسعي إسرائيل إلى تفتيت دول الجوار على أساس ديني ومذهبي، لتبرير قيام دولة إسرائيل على أساس ديني من جهة، ولإضعاف هذه الدول من جهة ثانية (دراسة يديد ينوون: استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات، منشورة ملحق في كتاب عصمت سيف الدولة "دفاع عن ثورة مصر العربية"، القاهرة، دار المستقبل العربي 1990).
مع معركة الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، وقيام الدولة الوطنية، عادت الأوضاع إلى
أما الموجة الحديثة من التطييف والتوتر وانطلاق الصراعات المباشرة بين المذاهب، خصوصاً السنّة والشيعة، فقد انفجرت في ضوء حدثين إقليميين: الثورة الإيرانية واحتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان. الأول، عبر اعتماد إيران نظام ولاية الفقيه، واعتبار دستورها المذهب الجعفري الاثني عشري ديناً للدولة، وتبني سياسة تصدير الثورة، والولاية على الشيعة أينما كانوا، وبغضِّ النظر عن أعراقهم وأوطانهم، والعمل على استتباعهم، وما نجم عنها من توترات وحروب. الحرب العراقية الإيرانية، وتوتير المناخ بين السنة والشيعة، وتفجير المشاعر الطائفية، ووضع اليد على المواقع التاريخية والمزارات التي يقدسها الشيعة، مثل مزار السيدتين زينب ورقية في دمشق، وقبر أويس القرني في الرقة، لربط ممارسة هذه الطقوس بالنظام الإيراني، والسيطرة على الدورة الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بها، والتحكم بمشاعر أبناء الطائفة وعواطفهم، والعمل على نشر التشيع عبر التبشير وبذل المال بسخاء في الدول الإسلامية المجاورة (سورية، مصر، السودان، تونس، المغرب) وسيلة لإيجاد نفوذ، والحصول على موطئ قدم في هذه الدول، وتشكيل لوبيات ومليشيات مسلحة داخلها، تلعب دور "حصان طروادة" أو "طابور خامس" في خدمة النظام الإيراني. وقد قال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، إنه خلق 10 إيرانات خارج إيران، وهذا استدعى تصعيداً في المشاعر الطائفية ونبش الماضي بكل مآسيه.
إبّان قيام الثورة الإيرانية، نشر شاعر شيعي قصيدة في مجلة الشراع، مجلة حزب الاتحاد الاشتراكي الناصري القومي، استعرض فيها المواقع والمذابح التي تعرض لها المسلمون الشيعة على أيدي جيوش الخلافة السنية، وختمها بعبارة استفزازية: "سنجمع دَيْن التاريخ كله ونأخذه دفعة واحدة".
الحدث الثاني هو الاحتلال السوفييتي أفغانستان، فعبْر توظيف الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين (السعودية وباكستان) العامل الديني لحشد المقاتلين والممولين وراء حركات الجهاد الأفغاني، وما ترتب عليه من نتائج: ولادة تنظيم القاعدة وما يمثله من ثقافة وسياسة تكفير الحكام والمذاهب الإسلامية غير السنية، وخصوصاً الشيعة، وانطلاق نشاطات تنظيمية وعسكرية في دول عربية وإسلامية على خلفية تحريرها من الحكام الكفرة، وتطبيق الشريعة قبل تبنيها استراتيجية محاربة العدو البعيد (الكفار واليهود) أولاً، وتنفيذ عمليات إرهابية كثيرة وكبيرة، في عدد من دول العالم ضد المصالح الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، بما فيها "غزوة" نيويورك في 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، والرد على احتلال الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، وبدء الانتقام من الشيعة في العراق "لدورهم" في هذا الاحتلال، قبل تحوله إلى تنظيمات شبه مستقلة (القاعدة في الجزيرة العربية، القاعدة في بلاد الرافدين الذي تحول إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، وأعلن تأسيس دولة خلافة على الأراضي التي احتلها في سورية والعراق، ومبايعته من حركات جهادية في مصر وليبيا وأفغانستان ونيجيريا، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتنظيم الشباب في الصومال).
هل ستنجح الثورة السورية، كما فعلت القوى الوطنية السورية في مرحلة التحرر من الاستعمار، في إعادة التوازن إلى المجتمع السوري، وإعادة الاعتبار إلى منطلقاتها السياسية والأخلاقية، ثورة حرية وكرامة، وتحقيق النصر على النظام الاستبدادي وعلى النزوع السلبي نحو التمييز الديني والمذهبي الذي انتشر مثل طفح جلدي على سطحها، وتنفيذ برنامجها للمرحلة الانتقالية، القاضي بمنع الفوضى والانتقام، أو الاقتتال الطائفي وتحقيق عدالة انتقالية على قاعدة المصارحة والمصالحة بسلاسة ويسر، وإقامة نظام ديمقراطي على قاعدة المواطنة، وإشاعة العدل والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن العرق والجنس واللون والدين والمذهب، في ظل سيادة القانون، مدخلاً لتكريس دينامية توحيدية واندماج وطني. إنها مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة.