لم تكن تلك الطريقة التي اختارها لموته، بعد إخفاق علاقته العاطفية، سوى تطبيقاً حرفيّاً لكلمات أغنيةٍ ذاع صيتها وحقّقت رواجاً كبيراً في أوساط الشباب قبل سنوات. وضع عنقه على سكّة حديدية وانتظر وصول القطار الذي فصل رأسه عن جسده.
تقول كلمات الأغنية: "نحطّ راسي في الراية/ ندير زوج شهود عليّا/ نقارع الماشينة ونقيس روحي قبالها/ جوزيفين.. جوزيفين واش دَرتي فيا؟". ومعناها: "أضع رأسي على السكّة الحديدية/ أُحضر شاهدَين/ أنتظر القطار وأرتمي أمامه/ جوزيفين، ماذا فعلتِ بي؟".
لم يكن انتحار ذلك الشاب في قرية شرقَ الجزائر قبل سنوات، الأوّل ولا الوحيد من نوعه؛ إذ تنقل الصحف حوادث مماثلة، وضع أبطالُها حدّاً لحياتهم بطرق استعراضية شنيعة مُستلهمة من أغانٍ رائجة.
يزدحم سجلّ الأغاني الجزائرية بكلمات تُمجّد العنف وتدعو إليه، في سياقات كثيراً ما تكون غريبة وغير مفهومة، فهذا مغنّي الراي، الشاب خالد، يخاطب حبيبته قائلاً إن قلبيهما معلّقان عند الجزّار: "قلبي وقلبك عند البوشي معلّقِين"، وهذا مغنٍّ آخر يطلب من حبيبته أن تُطلق عليه النار: "هاكي البِيّة وتيري عليّا"، والأمثلة كثيرةٌ ومتعدّدة.
موازاةً مع ذلك، سجّلت الأغنية الجزائرية ارتفاعاً كبيراً في جرعة الجنس، وانتقلت من مستوى الإيحاء إلى التصريح والمباشَرة. بعبارة تصف العلاقة الحميمية بمفرداتها، دون مواربة. واللافت أنها خرجت من "علب الليل" إلى سيّارات الجزائريين وأعراسهم.
أيضاً، انتشرت أغنياتٌ عنصرية لا يجد مؤدّوها حرجاً في شتم الوافدين من المحافظات الداخلية إلى العاصمة أو غيرها من المدن الكبرى، وأغنية "كابتك ولايتك" مثال بئيس عن ذلك.
من الضروري درس تلك الظاهرة لفهم سياقاتها السوسيو - ثقافية واستجلاء دلالاتها. فكثير من تلك الأغاني كانت مؤشّراً لاحتقانٍ سرعان ما فجّرته أحداث أكتوبر 1988، واستمرّ قرابة عقدين. خلالها وبعدها، باتَ مُفردة أساسية في الغناء والشارع، فالمرأة الفاتنة بالـ "بومبة" أي القنبلة، في معرض التغزّل بها.
المفارقة أن المغنّي الغربي حين يغنّي للموت، كثيراً ما يكون صادقاً، وثمّة أمثلة عديدة لمغنّين دفعوا مستمعيهم إلى الانتحار، ثمّ لحقوا بهم أو سبقوهم. أمّا عندنا، فيموت المستمع المسكين ويظلّ الفنانُ مستمتعاً بعدّ ضحاياه وأرباح أغنياته!