الأسد الثالث.. رئيسٌ يتسوّل دوراً ووظيفة

20 يوليو 2014

لاجئون سوريون في لندن يحتجون على انتخابات الأسد (يونيو/2014/Getty)

+ الخط -

لم يملك بشار الأسد قدراً كافياً من الحنكة والذكاء، تتيح له التملّص من توقعات معارضيه لطبيعة خطابه، "القَسَم"، على الرغم من أن تلك التوقعات اتخذت، في معظمها، طابع التندّر، وتميّزت بارتفاع سقف الانفصال عن الواقع، ربما لأن هذا النمط الكاريكاتيري من الأشخاص يتميّز بسهولة معرفة طرائق تفكيرهم، وشكل استجاباتهم وطبيعة ردود أفعالهم، لصدوره عن نسقٍ نمطيّ يسهل توقّع ردوده وتصريحاته. غير أن المفاجئ والصادم أن يأتي الأسد، بعد كل ما مرّت به سورية، بخطاب سجالي، وبلغة صحافية تحليلية، تطفح منها نبرة المكايدة لقسم كبير من شعبه، فذلك ليس له سوى معنى واحد، هو أن أزمة السوريين كان ثمنها بخساً، ما دامت لم تستطع تعليم شخصٍ، يتسنّم أرفع منصب سوري، معنى السياسة، ولا منطقها، حيث ثبت، بالبرهان القاطع، أن الرئيس ما زال في حاجة لتمارين سياسية كثيرة، مع العلم أن كل تمرين صار يعني إرجاع سورية سنوات طويلة إلى الوراء، وصار يكلّف موت مئات الآلاف وتشريد الملايين، وكأن السيد الرئيس يتدرّب بلحم سورية وعمرانها، ما يجعل من تعلُّمه أكثر الدروس كلفة في التاريخ.

أراد بشار الأسد، بخطابه، إعلان نهاية مرحلة، وبدء مرحلة جديدة، عبر تصوير نفسه زعيماً منتصراً على مؤامرة كونية، استهدفت نموذج حكمه، وإدارته السياسية المثالية. ولكن، مَن هم أعداء الأسد فعلاً؟ بالتأكيد، ليس الرئيس الأميركي، فلطالما كان الأسد يتوسّل وظيفة مخبر لديه على الجماعات الجهادية في العراق، ولا رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حيث كان الأسد يجهد في تثبيت وضعيته حارساً لحدود الجولان، وليس رئيس وزراء تركيا، رجب طيب أردوغان، الذي فتح له بطن سورية الاقتصادي. وطبعاً، لن تكون دول الخليج، إذ لطالما كان الأسد يروّج بنفسه لأثرياء الخليج لكي يقضوا الصيف في سورية!. أعداؤه، إذن، من الداخل، السوريون، أبناء الأرياف والعشوائيات، هم مَن انتصر عليهم، ولكنه انتصر بصفته دليل "مرشد" في كتائب قاسم سليماني، ذات الصبغة والتركيبة المذهبية!

لم تعد خافية مساعي الأسد استثمار مناسبة إعادة فرض نفسه حاكماً على سورية، بوصفه حلاً وحيداً وإجبارياً، من أجل إعادة تأهيله وإدماجه في منظومة العلاقات الدولية، وشبكة تفاعلاتها الإقليمية، بإعادة تشغيله بمهام أمنية، كالتي اعتاد نظام الأسد عليها منذ أربعة عقود، وهذه المرة، تحت ذريعة محاربة الإرهاب، حيث يعمل على ترويج نظامه وشبكاته الاستخباراتية وأذرعه الميليشياوية، ليصار إلى دمجها في أي حرب أو تحالف دولي ضد الإرهاب، وخصوصاً أنه راح يشيع، عبر مندوبيه والمتحدثين باسمه، أنه يمتلك خريطة التنظيمات الجهادية المسلحة من خلال اختراق أطرها، ويريد استثمار هذه الميزة في إطار جهود دولية لتفكيك خلايا استقطاب المقاتلين القادمين إلى سورية، ومعرفة هوية المنخرطين، والذين قد يعودون إلى بلدانهم.

ويتعامل الأسد مع عرضه، بمثابة رهان سيتحقق، وإنْ طال الانتظار، وأنه لا بد أن يحلّ الظرف الذي يجعل التعامل مع نظامه أمراً لا مفر منه، في الحرب على الإرهاب. وينطلق في هذا الرهان، بناءً على مرتكزات أسّس لها بإتقان هائل في المشهد السوري، عبر تحويله البلاد إلى أرضٍ للخراب، واستدعائه كل شياطين التطرف للإقامة فيها. بالتالي، فإنه بانتظار غودو الذي سيأتي على حصان الحرب على الإرهاب.

لم تسمح للأسد حقيقة انفصاله عن الواقع الموصوفة إدراك أنه يقدم عروضه تلك في زمن لن يشتريها منه أحد، بسبب استهلاك بضاعته، وانتهاء زمن صلاحيتها، ولأن مناخ الاستثمار في الأسد نفسه غير مناسب، وهذا لعدم قدرته على تحقيق شروط جذب المستثمر. ونظراً لارتفاع مستوى المخاطر التي تجعل الاستثمار فيه بمثابة مغامرةٍ، لن يجرؤ أحد على الإقدام عليها، ليس لسبب أخلاقي، على اعتبار أن نظام الأسد بلغ درجة من الانحطاط تضع كل مَن يتعاطى معه في دائرة الشبهة بالتعامل مع "أزعر" الحارة، ولكن، بصفته رهاناً خاسراً وغير مضمون، في ظل حالة استنزاف قدرته، وتراجع قواه وقوى حلفائه في إعادة السيطرة على المشهد السوري.

يستنفد الأسد جهوده بالتدليل على خدماته، فيما تشّبه معظم التقديرات الوضع السوري بحالة يوغسلافيا عام 1993 عشية تفككها. بل تذهب كثير من تلك التقديرات إلى أن هذه الحالة لن تكون سوى مرحلة عابرة، تدخل بعدها سورية النموذج الأفغاني. فيما تذهب تقديرات، أكثر واقعية، إلى توصيف الحالة السورية بالنموذج الصومالي، وهي حالة تكاد تنطبق على اللحظة التي كان يؤدي فيها بشار الأسد قَسَم الرئاسة، ويعلن فيه الانتصار على المؤامرة. لحظتها كان نمط الإمارات، "الجمهوريات"، المتناحرة هو السائد، من الغوطة الشرقية إلى القلمون، فالرقة ودير الزور، وكان جزء من الثوار يعلن تحرير آخر معاقل النظام على الطريق الواصل بين درعا والقنيطرة.

الأسد الثالث سيكون رئيساً على جزء من سورية، مع أرجحية تقلّص مساحة ذلك الجزء باستمرار. وحتى ميزة التدمير التي تفوّق فيها، في ولايته السابقة، لن يستطيع إضافة جديد عليها، بعدما استنفد بنك أهدافه، إلا إذا أراد تحطيم أعمدة قاعة قبو القصر الرئاسي الذي أدى فيه قسم الرئاسة، كخيار شمشوني أخير، ولكنه، أيضاً، لن يجد مَن يوكله بوظيفة، بعدما استنفد كل طاقاته التشغيلية.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".