الأزمة في ليبيا بين تقاسم السلطة والانتخابات

28 مارس 2018

ملصقات في طرابلس تشجع التسجيل والمشاركة بالانتخابات (16/2/2018/فرانس برس)

+ الخط -
بينما تقف ليبيا  أمام خيارات استراتيجية، إما الخروج من الحالة الانتقالية أو الاستمرار في الصراع  المسلح، لم يتبق من خريطة طريق الأمم المتحدة سوى تنظيم الانتخابات. وهنا تبدو أهمية تقييم المسار السياسي باعتباره حلا أخيرا للخروج من الأزمة  الممتدة أو تخفيفها، لكن تحقيق هذا الهدف يتوقف على مدى القبول بالحد الملائم من الثقة وتكافؤ الفرص في ملء الفراغ والحوار بشأن القضايا المستقبلية، وخصوصاً ما يتعلق بالعلاقات المدنية العسكرية وترابط السلطة السياسية.

من تعديل الاتفاق للانتخابات
قامت خطة الأمم المتحدة، في سبتمبر/ أيلول 2017، على تفعيل المسار السياسي على قاعدة المسارات المتوازية، حيث ركزت على تعديل اتفاق الصخيرات، ومعالجة انقسام المؤسسات، وعقد الملتقى الوطني، بما يسمح بالانفتاح على النخبة، لتشمل أطرافاً لم تشارك في الفترة الماضية، وهي حزمة تشمل إعادة تشكيل المجلس الرئاسي، والاستفتاء أو الانتخابات العامة، وعقد الملتقى الوطني. وفي هذا السياق، تبدو تنافسية حادة بين خياراتٍ تبدو متناقضة، سواء في محتواها التنفيذي، أو في الخلاف حول أولويتها، خصوصاً ما يتعلق بالخلاف بشأن الاستفتاء والانتخابات وتشكيل مجلس الرئاسة.
وبمرور الوقت، حدث تباطؤ في السير بهذه الخطة، ففي إفادة مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، غسان سلامة، أمام مجلس الأمن في 21 مارس/ آذار الحالي، حدث تغير في أولويات الأمم المتحدة، حيث اقتربت من التوجهات السياسية الداعية إلى تبني التعديلات المتعلقة بإعادة تشكيل المجلس الرئاسي وإجراء الانتخابات، كما تضمنت انتقاداتٍ لتقصيره في حفظ الأمن في العاصمة طرابلس، وهو ما يعتبر تراجعاً عن خطته القائمة على إجراءات متوازية للحوار وتوسيع النخبة السياسية والاستفتاء على الدستور والانتخابات، حيث تؤدي إعادة تشكيل المجلس الرئاسي، من دون إجراء تعديلات في المؤسسات الأخرى، إلى زيادة تفكك السلطة التنفيذية والصراع حولها وترسيخ تفاوت العوائد السياسية بين قيادة الجيش والسلطة المدنية.
وفي تصريحاته بعد لقائه رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، في 25 مارس/ آذار الحالي، 
يبدو أن غسان سلامة كان أكثر وضوحا عندما طرح صياغة لبرنامجه السياسي، تقوم على المفاضلة بين خيارين؛ عقد الانتخابات العامة أو تعديل الهيئة التنفيذية (المجلس الرئاسي)، والخيار الثاني تتراجع أهميته مع اقتراب موعد الانتخابات قبل نهاية العام الجاري، ما يعني تأخير أولوية الملفات الأخرى في خريطة الطريق، كعقد الملتقى الوطني والاستفتاء على مشروع الدستور. وهنا، يظهر اهتزاز أولويات الأمم المتحدة تجاه العملية السياسية، خصوصاً في ما يتعلق بالانتقال إلى مرحلة الدستور الدائم.
وعلى الرغم من صدور قرار المحكمة العليا بصحة التصويت على مسودة الدستور، أقرت الأمم المتحدة بوجود عقباتٍ أمام الاستفتاء، بسبب الخلاف على قانون الاستفتاء واستمرار الإرهاب، أو التنافس المستمر بين المكونات السياسية والعسكرية، وتنامي وجود المرتزقة. وقد ساهمت هذه الظواهر في وجود مؤسسات هشّة، لا تستطيع إدارة تحول سياسي. وعلى هذا الأساس، ترى البعثة الدولية أن قبول نتائج الانتخابات يشكل تحدياً رئيسياً.
لم تتمكّن الأمم المتحدة من جمع اللاعبين المحليين والإقليميين حول خطة البعثة الدولية للسلام، فعلى الرغم من أن الخطة اتسمت بالتراتب النظري، فإنها لم تستطع فرض نفسها مسارا فعليا في السياسة الليبية، سواء لعقد المؤتمر الوطني أو تطوير الحوار السياسي أو بناء الثقة قبل إجراء الانتخابات.
وعلى الرغم من سعي الأمم المتحدة إلى الوصول لحكم القانون في ليبيا، يتجه المسار السياسي نحو الدخول في مرحلة انتقالية أخرى، من دون أساس قانوني صلب. وكان هناك تفاؤل بقدرة مقترحات غسان سلامة على تحقيق إنجاز دستوري وهيكلة النخبة السياسية، لكنها وصلت، في النهاية، إلى الخيارات التقليدية، حيث لم يتبق أمام البعثة الأممية سوى خيار الإذعان لإجراء الانتخابات بوصفها حلا انتقاليا. ومن ثم، يمكن القول إن دور الأمم المتحدة صار يقتصر على الاستجابة لتطلعات مراكز النفوذ، الخارجية والداخلية، في السياسة الليبية، من دون التمسك بمسارات تؤدي إلى تحقيق السلام.

البلديات والسياسة
وفي سياق النظر للخروج من الأزمة، لقي اجتماع بلديات ليبيا في 19 مارس/ آذار الحالي 
انتقادات كثيرة، بسبب تقديمه اقتراحات للخروج من الأزمة السياسية، تقوم على اضطلاع مجلس القضاء الأعلى بمهمة إدارة المرحلة الانتقالية، وذلك على الرغم من ابتعاد القضاء الليبي عن الانخراط في الأزمة السياسية، وتجنب الاستجابة لمطالبات بعض الأطراف بتدخله، ولذلك ظلت المحكمة العليا بعيدة عن التجاذب السياسي.
وقد ذهبت الانتقادات إلى التأكيد على جانبين؛ أنه يجب أن يظل سلطة محايدة بعيدة عن الصراع السياسي، وأن البلديات تتجاوز اختصاصاتها الإدارية. وعلى الرغم من هذه الملاحظة، يمكن النظر إلى اجتماع البلديات الليبية دلالة على أنه بينما تعاني السلطة السياسية من انقسامات وعدم القدرة على الوصول المناسب للمجتمع، كانت السلطات المحلية أكثر تعبيراً عن الرغبة في وحدة الدولة وتماسكها، بغض النظر عن ضعف سيطرة البلديات على المدن، بسبب تصاعد دور الشيوخ والمجلس العسكري، ما يشكل عقبة أساسية أمام تماسك السلطة المحلية. وعلى أية حال، يمكن اعتبار موقف البلديات تجاه الوحدة من المؤشرات الجيدة على إمكانية استعادة بناء الدولة.

الإطار الدستوري والانتخابات
شكلت ظاهرة الانهيارات الدستورية المتتالية في ليبيا الجذر الأساسي لاستمرار الحالة الانتقالية، حيث افتقر القانون للحماية اللازمة لإنفاذه. وهنا تشير خبرة المؤسسات الدستورية إلى أن الانقسام السياسي وانتشار السلاح من العوامل التي ساهمت في تقويض السلطة، حيث يكمن القول إن سيولة النص الدستوري كانت انعكاساً لتفكك البنية السياسية والاجتماعية. وتتقارب هذه الحالة مع وضع البلاد في أغسطس/ آب 2011، بعد صياغة الإعلان الدستوري، حيث تبدأ مرحلة مختلفة من تشكيل المؤسسات. وعلى الرغم من أنها تقوم على الانتخاب، إلا أنها ما زالت تعبر عن خيارات النخبة، ولا تستند لأرضية قانونية مستقرة.
وقد لازم الاستمرار في المسار السياسي إلى تمديد السلطات القائمة، من دون وضع محتوى جديد، يقطع الطريق على السيولة الدستورية، فعلى الرغم من الجدل بشأن صلاحية الإعلان الدستوري، لم تساعد خريطة الطريق في فبراير/ شباط 2014 في تكوين وضع دستوري يدعم القبول بنتائج الانتخابات، ما ترتب عليه نزاع قانوني، أثار الجدل بشأن مشروعية المؤسسات، وبشكل وضع قيوداً حاسمة منعت تطبيق الاتفاق السياسي أو القبول به. وبالتالي، تتجه المناقشات الحالية إلى إحداث قطيعة مع الوضع الانتقالي الراهن، وتأسيس مشروعية جديدة، وليس بإجراء تغييرات شكلية على السلطات القائمة، غير أن غموض الإطار القانوني وعدم الانتهاء من تصورات بناء الجيش وانتشار الكتائب والمجموعات المسلحة في المنطقة الغربية هي بمثابة تحديات أمام الانتقال للانتخابات.
وهناك صعوبة في تناول الانتخابات بمعزل عن محادثات توحيد الجيش، فكما أفاد البيان 
الختامي للجولة السادسة بأنها تشكل النواة الصلبة لدفع المسار السياسي، فإن نتائج المحادثات ترتبط بحسم المناصب الرئيسية في الدولة، ما يشكل محدّداً رئيسياً لانعقاد الانتخابات أو تأجيل انعقادها، خصوصاً أنها تتعلق بترتيب المناصب التنفيذية الأكثر تأثيراً، ولا سيما رئاسة الدولة والقيادة العامة للجيش.
ويأتي خيار الانتخابات ضمن تطلعات الجماعة الدولية، وخصوصا من جانب الأمم المتحدة، وبعض السياسيين الليبيين. ويمكن النظر إلى طرح الانتخابات باعتبارها الوجه الآخر لتراجع فكرة الدستور أو تأجيلها، على أنه سوف يؤدي إلى تراجع دور "الهيئة التأسيسية" بصورة قد تدفعها إلى الإعلان عن حل نفسها. ولذلك تبدو أهمية الأخذ بالتحوطات الكافية للحفاظ على الحد الأدنى من الأساس القانوني لوجود هيئة دستورية، يمكنها لاحقاً التصدي لمهامها في المستقبل.

القيود الانتخابية
تتشابه القيود والمعوقات التي يواجهها الاستفتاء على الدستور والانتخابات العامة، فاستمرار الصراع المسلح ومقاطعة المكونات الثقافية للعملية السياسية، باعتبارها عوامل تفرض قيودا على التصويت وحماية الإرادة الشعبية، فعلى الرغم من عقد الانتخابات السابقة للمؤتمر الوطني والهيئة التأسيسية ومجلس النواب، فإنها لم تساهم في تطوير المؤسّسية، بقدر ما أفسحت الطريق لعوامل الصراع لإطاحة المؤسسات والقانون. وبالتالي، لا تبدو المعضلة في الجدل ما بين الاستفتاء والانتخابات، بقدر ما ترتبط بالقدرة على تحييد الصراع وإيجاد مناخ مناسب للحوار السياسي.
وعلى الرغم من محاولة توزيع السلطات الدستورية على الأقاليم الثلاثة، ظل الطابع المركزي يشكل السمة العامة لمشروع الدستور، ما يزيد من احتمالية عدم حصوله على التصويت اللازم لإصداره دستورا دائما، وهو ما يُحدث مشكلة أخرى أكثر تعقيداً، تدفع نحو إعادة التفكير في المسألة الدستورية خارج السياق القائم، فهناك ثلاثة عوامل رئيسية تعزّز من احتمالية عدم جدوى الاستفتاء، حيث رفْضُ الأمازيغ والفيدراليين وانتشار الصراع المسلح وتململ الشرق من الروح المركزية في مشروع الدستور.
وبينما يزداد زخم خيار الانتخابات العامة، تشكل ظاهرة الاستقطابات تحدياً للقبول بنتائجها، 
فخلال الأشهر الماضية، ظهرت حملات لاستبعاد سيف الإسلام القذافي من المشاركة في الانتخابات، بسبب خضوعه لمحكمة الجنايات الدولية أو انتمائه للنظام الجماهيري، ما قد يشكل مسألة جدلية، فبغض النظر عن وضوح رغبته في المشاركة السياسية، تثير هذه المواقف القلق على المسار السياسي، وبشكل متزايد، خصوصاً مع بروز تطلعات حادة للمطالبة بإدراج الإسلاميين وأحزابهم على القوائم الإرهابية، واتهامهم بالتسبب في الأزمة السياسية، وهي توجهات إلى دفعهم خارج العملية السياسية، ما يفاقم تعقيد شروط بناء الثقة قبل إجراء الانتخابات.
كما يفرض تفكك الدولة وزيادة حدة الصراع قيوداً على قيام الإسلاميين بدور مؤثر في المرحلة الانتقالية التالية. وهو ما يرجع إلى أمرين؛ تشتت مواقف الإسلاميين بين المسارين؛ السلمي والعسكري، والتراجع الحاد في تأثيرهم داخل السلطات القائمة، مثل مجلس الدولة، أو في حالة إعادة تشكيل المجلس الرئاسي. يمكن قراءة الأوضاع الحالية أنها تشير إلى تراجع فرص الاستقرار، ليس فقط بسبب كثافة التدخل الدولي وتناقضاته، لكن أيضا بسبب انهيار المؤسسات وعدم قدرتها على القيام بوظائفها. ولعل اندلاع الصراع المسلح في جنوب ليبيا ومحاولات استقطاب القبائل، يوضح مدى انكشاف المؤسسات وعدم قدرتها على حفظ الأمن وفرض القانون أو منع تغلغل المسلحين الأجانب وانتشارهم، والاستعانة بهم في المعارك الداخلية.
وبشكل عام، قد يكون الدخول إلى الانتخابات حلاً ملائماً لتخفيف حدة الاختناق الدستوري في ليبيا، ولكن يصعب اعتبارها حلاً استراتيجياً، فهي، من جهة، تتم في سياق أزمة حادة تضع البلاد في حالة انقسام حقيقي، تحت تأثير التدخلات الإقليمية والدولية. ومن جهة أخرى، لا يتضح الأساس القانوني الذي تقوم عليه الانتخابات. وبالتالي، فإن التركيز عليها حلا وحيدا سوف يساهم في إثارة الصراع وإدامته. وفي ظل هذا الواقع، لا تبدو الخيارات أمام ليبيا ملائمة للتغيير السلس، لكنها تحمل، في جزء منها، فرصة وجود الحد الأدنى من مشروعية بناء السلطة. يتحقق ذلك إذا ما استطاعت تكوين استراتيجيةٍ تقوم على الحلول المتضافرة، وأن تؤدي الانتخابات إلى نقل السلطة إلى أجيال أخرى.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .