الأردوغانية وسؤال المستقبل

27 يونيو 2018
+ الخط -
مع فوز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالانتخابات الرئاسية في بلاده، والانتقال إلى النظام الرئاسي، ثمّة أسئلة كثيرة عن تركيا المستقبل، وهويتها، وخياراتها، وسياساتها في الداخل والخارج معا، فعلى الرغم من كل الانتقادات له، والتي وصلت إلى حد وصفه بالدكتاتور، أثبت الرجل قدرته على إدارة اللعبة الديمقراطية ببراعة، وتحقيق الفوز تلو الآخر، على الرغم من أن انتخابات يوم الأحد الماضي أظهرت تراجع حزبه (العدالة والتنمية) بشكل لافت، فبدا أن أردوغان أكبر من حزبه، وهو ما يرجح قيامه، في الأيام والأسابيع المقبلة، بحملة إصلاحات واسعة، تطاول المفاصل الأساسية في الحزب.
لا يمكن فصل فوز أردوغان عن سياق رؤيته لتركيا عام 2023، والتي تقوم على أن تركيا ستكون دولة مستقرة ومزدهرة ومنسجمة مع هوية حضارية، تقوم على موروث ثقافي يجمع بين الإسلام والقومية والعثمانية والاقتصاد، بما يعني كل ما سبق وضع نهاية للأتاتوركية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية) التي حكمت تركيا طوال العقود الماضية، إلى درجة أن مقولة "أتاتورك يحكم تركيا من قبره" ظلت سائدة طويلا، بل اضطر أردوغان، صاحب الهوية المختلفة عنه سياسيا، مرارا إلى السير تحت عباءته (أتاتورك)، 
لتوطيد أركان حكمه والحفاظ عليه، قبل أن يتخلص تدريجيا من الأسس التي وضعها الأخير. ولعل ما ساعده على ذلك تحوّل أيديولوجية أتاتورك إلى مجموعة من القوالب الجامدة، والمعادية لهوية الدولة والمجتمع، لطالما أن أيديولوجيته قامت على إقصاء الهوية الإسلامية للبلاد، وتحويلها إلى عدو داخلي، وكذلك نفي التعدّدية القومية لصالح القومية التركية كقومية عنصرية، إلى درجة أنه، تحت تأثير هذه الأيديولوجيا، أطلق على كرد تركيا تسمية أتراك الجبال، حتى بدت مع الزمن عاجزة عن تأطير الهوية الثقافية والاجتماعية في البلاد، على الرغم من كل الإجراءات القسرية التي مارسها الجيش باسم الحفاظ على العلمانية.
مع الجزم بأن أردوغان وضع تركيا على السكّة التي يريدها، ثمّة مخاوف من أن يكرّر مسيرة أتاتورك، ولو بطريقة مغايرة، فأردوغان الذي سعى طويلا إلى النظام الرئاسي سيجد نفسه في المرحلة المقبلة أمام سلطةٍ شبه مطلقة، تخوّله ممارسة السياسة بطريقة سلطانية، فلا رئيس لحكومة كان له السلطة التنفيذية في السابق، ولا برلمان يستطيع نزع الثقة عن الوزراء، أو حتى حق المصادقة على الحكومة، بل إن للرئيس أردوغان حق تعيين الوزراء، وحتى حل البرلمان، فهو الرجل الذي يشرف على كل مؤسسات الدولة، من خلال لجانٍ وهيئاتٍ تعمل تحت إشرافه وتعيينه، سلطة تؤسس لمركزية حكمٍ يخلّص البلاد من بيروقراطيةٍ اشتكى أردوغان منها مرارا، بوصفها عقبةً تضع الصعوبات مع القطار التركي الذي يريد أردوغان، من خلاله، الوصول إلى الجمهورية الثانية في عام 2023، لتكون بمثابة النهاية الرسمية لجمهورية أتاتورك.
ليس طريق أردوغان إلى ما سبق مفروشا بالورد، فتركيا تعيش في منطقة جغرافية مضطربة، حيث الحروب في سورية والعراق تخيّم بظلالها على الداخل التركي، وحيث التكالب الأميركي على تسويق صفقة القرن، لتكون إسرائيل الدولة المهيمنة على المنطقة، وحيث التقارب الروسي الذي يُريد منه بوتين نزع تركيا عن عضويتها الأطلسية، وحيث أوروبا التي لا تفتح لها باب العضوية، وتمارس معها سياسة العصا والجزرة، انطلاقا من مصالحها أولا وأخيرا، وحيث النزاعات الخامدة مع أرمينيا واليونان وقبرص... وهكذا تبدو تركيا كأنها سفينةٌ تجوب البحار والمحيطات، بحثا عن دولة مركزية مؤثرة، يعتقد أردوغان أنه قادر على تحقيقها.
ولا تتعلق التحديات بالخارج فقط، ففي الداخل جملة تحدياتٍ لا تقل أهمية عن الخارج، فالتحدي الكردي يبقى قائما، ما لم يتم إيجاد حل سياسي يحافظ على وحدة تركيا، ويحقق الهوية القومية
للكرد، ولعل تخطّي حزب الشعوب الديمقراطي العتبة الانتخابية، ودخوله إلى البرلمان بسبعة وستين نائبا، حفظ البلاد من صدام داخلي، كان يمكن ان يتفجر، بل إن وصوله إلى البرلمان يبقي نافذة أملٍ على حل سياسي في المرحلة المقبلة. التحدي الآخر الذي ينبغي ملاحظته من نتائج الانتخابات البرلمانية، هو صعود اليمين القومي المتطرّف بقوة على حساب حزب العدالة والتنمية، فنتائج حزب الحركة القومية، بزعامة دولت باهشلي خالفت كل التوقعات، كذلك فإن نتائج حزب الجيد أو الخير، برئاسة ميرال أكشينار التي انشقت عن حزب الحركة القومية، بدت لافتة ومثيرة، إذ حقق الحزبان نحو 23% من مجموع الأصوات. وبغض النظر عن خلافاتها التنظيمية، قد يشكل هذا الصعود اليميني تحديا لأردوغان وحزبه في المرحلة المقبلة، خصوصا أنه قد يترافق مع مطالب بوزارات ومؤسسات حكم، وهو ما قد يضع أردوغان أمام واقع صعب مع حليف (حزب الحركة القومية)، إذ من دونه سيصبح "العدالة والتنمية" في حالة شلل سياسي داخل البرلمان.
ومن التحديات المهمة أيضا قيمة العملة التركية أمام الدولار، خصوصا بعد أن تحول هذا الأمر له إلى سلاح لتحديد علاقة المواطن التركي بالحكم أولا، وبلقمة العيش ثانيا. تحديات تفتح الباب أمام السؤال عن الأردوغانية التي لم تعد مجرد صفةٍ لرجل، بل ظاهرة ستطبع المرحلة المقبلة من الحياة السياسية التركية.

55B32DF5-2B8C-42C0-ACB3-AA60C835F456
خورشيد دلي

كاتب سوري، عمل في قنوات تلفزيونية، صدر له في 1999 كتاب "تركيا وقضايا السياسة الخارجية"، نشر دراسات ومقالات عديدة في عدة دوريات وصحف ومواقع إلكترونية.