الحكومة الأردنية التي يرأسها اقتصادي وتضم فريقاً اقتصاديا قد يكون الأكبر في تاريخ الحكومات المتعاقبة، أبدت عجزاً كاملاً عن اجتراح حلول للمشكلات الاقتصادية المستعصية في البلاد، ونهجت نهج سابقاتها باعتمادها على الحلول الجبائية التي تستهدف جيوب المواطنين، في تسليم سافر لاشتراطات صندوق النقد الدولي الذي بات صاحب الكلمة النهائية في رسم الاقتصاد الأردني تحت ذريعة "إزالة التشوهات وتصحيح المسار"، دون مراعاة للأبعاد الاجتماعية وحتى الأمنية.
نهاية عام 2012 أقدمت حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله النسور، الذي منح شعبياً لقب " بطل رفع الأسعار" على رفع أسعار المشتقات النفطية، تحت مبرر إلغاء الدعم الحكومي، وهو القرار الذي تكفل حينها باندلاع حركة احتجاجية عنيفة أطلق عليها "هبّة تشرين"، تدرجت المطالبات فيها من إسقاط حكومة الجباية إلى إسقاط النظام، قبل أن تحبطها الحكومة بطرق التفافية من خلال توزيع دعم محروقات للفئات الفقيرة سرعان ما تراجعت عنه.
هذا أحد الحلول التسكينية التي تنتجها الحكومات المتعاقبة في تمرير سياساتها الاقتصادية غير الشعبية، والتي تكفل امتصاص الغضب الشعبي تدريجياً لتفادي ردّات الفعل العنيفة، في مملكة تعتبر الاستقرار الذي تعيشه وسط إقليم مضطرب أكبر ثرواتها، ولا تنفك تسوق استدامته للحصول على المساعدات الدولية التي ترهن قرارها السياسي والقروض التي تعمق أزمة اقتصادها، كما تشتري فيه صمت المواطنين على سوء أوضاعهم الاقتصادية ومطالباتهم بإصلاحات سياسية.
حكومة رئيس الوزراء هاني الملقي، التي قدمت لمجلس النواب قانون الموازنة العامة للدولة للعام 2017 بعجز يبلغ نحو 750 مليون دولار، وزيادة في الإيرادات بلغ قرابة 636 مليون دولار، كشفت آليات معالجتها للعجز وتحصل زيادة الإيرادات، بما يضمن لها دوام رضا صندوق النقد للانتقال لمرحلة جديدة من مراحل إعادة تأهيل الاقتصاد الأردني.
آليات الحكومة لم تأت بحلول سحرية، بل تقليدية وربما بدائية، لم تخرج عن توقعات المواطنين البسطاء قبل خبراء الاقتصاد، وها هي الحكومة تتجه نحو فرض مزيد من الضرائب على السلع حتى الأساسية منها، ووضع ضرائب ثابتة على أسعار المحروقات المجردة أصلاً من الدعم الحكومي، وتسعى نحو تحرير أسطوانة الغاز، وفرض المزيد من الرسوم وخفض الإعفاءات عن ضريبتي الدخل والجمارك، وهي إجراءات تتكفل بمجملها بتعميق جراح الفقراء ومحدودي الدخل، وزيادة الانكماش الاقتصادي.
الحكومة وفي معرض تمريرها للإجراءات الاقتصادية، مارست فعل التذاكي على الشعب، الذي خبر بالتجارب التاريخية تلك الأفعال ويصطلح عليها بـ "أفلام محروقة"، فدفعت بوزير ماليتها عمر ملحس الأحد الماضي للإفصاح أمام اللجنة المالية في مجلس النواب عن حزمة الإجراءات، قبل أن يعود رئيسها مساء اليوم ذاته ليعلن أمام جلسة النواب المنعقدة أن "لا مساس بسعر أسطوانة الغاز"، ويؤكد باستعراضية واضحة عدم المساس بالفقراء ومحدودي الدخل.
"الفيلم المحروق" الذي مثلته الحكومة على الشعب لتسهيل تمرير القدر الأكبر من الإجراءات التي تعتزم الشروع بتنفيذها مطلع فبراير/ شباط المقبل، مقابل التنازل المرحلي عن بعضها لحين توفر ظروف مواتية لتمريرها، أتى بنتائج عكسية.
خلافاً للعام 2012 لم ينزل الناس إلى الشوارع بشكل عفوي في أعقاب رفع أسعار المحروقات، حين كانوا يومها ما يزالون تحت تأثير الاحتجاجات الشعبية التي عاشتها البلاد متأثرة باحتجاجات الربيع العربي، لكن دعوات الاحتجاج انتشرت سريعاً من قبل ناشطين سبق لهم أن انخرطوا في الحركة الاحتجاجية السابقة، وأعادوا إحياء الشعارات التي تطالب بالعدالة الاجتماعية ووقف نهج الجباية.
اللافت أيضاً أن أعضاءً في مجلس النواب الأردني المنتخب في سبتمبر/ أيلول الماضي، هددوا صراحة بالنزول إلى الشارع للمطالبة بإسقاط الحكومة في حال قررت المضي بنهب جيوب المواطنين، في تسليم مطلق من قبلهم بعجز مجلسهم الذي تهيمن عليه أغلبية موالية عن محاسبة الحكومة عبر القنوات الدستورية، ليكون الشارع خياراً مطروحاً.
الظروف في مجملها تبدو مواتية لعودة الحركة الاحتجاجية، ويعزوها أن النقاش الدائر نزع عن شعار "الأمن والأمان" القدسية التي أحاطته طويلاً، حيث يعاد اليوم تعريفه من زاوية اقتصادية واجتماعية وليست أمنية فقط، فيما تبقى الأنظار متجهة نحو مركز صناعة القرار ليصار إلى حسم الأمر.