الأردن... راهن الاحتجاج والإصلاح المنتظر

09 يناير 2019

متظاهرون أردنيون في عمّان (30/11/2018/فرانس برس)

+ الخط -
قطع الأردن سنوات صعبة منذ العام 2011، وبلغ الاحتجاج الشعبي في هذه السنوات موجات عديدة، وسقوفاً خارقة. ويتواصل هذا الفعل الاحتجاجي اليوم بشكل مختلف ومتعدّد، في ظل مجتمع يعتبر الأعلى عالمياً في التفاعل مع شبكات التواصل، ويشهد مزيدا من التعقيد والتحدّيات، ويبلغ أقصى مداه في التعليم، فينتج وعيه الخاص وفعله الأخص فيما يطفو على سطح المشهد السياسي من قضايا محليّة لا شك أنها لا تحدث فجأة وإنما لها راهنها ورهاناتها المنتظرة. 
وحين نتحدث عن راهن حركات الاحتجاج ورهاناتها، لا يمكن تجاوز المفاهيم الخاصة بالهوية والشبكات وإطار الصراعات الصاعدة بين مختلف الشرائح، فالصراع الاجتماعي ليس ضد جماعةٍ بعينها، أو شخوص، وإنما هو ضد زمنٍ انفتحت فيه الدولة على مختلف التيارات وتحالفات الإقليم. وفي بطن هذا الزمن، كان هناك أشخاص فاعلون، توجه لهم اليوم الملامة، إما بأخذ البلد إلى حالةٍ غير مرغوبة نحو الإصلاح المقيد واللبرلة والخصخصة، أو تأخير مسارها الإصلاحي، بدعوةٍ وطنية في ظاهرها، وفي باطنها موروثات المكاسب والزعامات التقليدية.
أما جهد الحركات الاحتجاجية في الأردن، فهو لا يختلف عن مسارها العالمي، فهي جهد جماعي، يرمي إلى تغير العلاقات المستقرة. وفي لحظةٍ أردنيةٍ، تريد الدولة أن تتخفف من نمطها الريعي لصالح حالة جديدة، هي دولة الإنتاج، كما جاء في مشروع الحكومة الأردنية أخيرا، وهو خيار صعب المنال، في ظل ظروف الإقليم وصغر السوق المحلي، وعدم وجود مقوماتٍ صناعيةٍ كبرى، وشح الموارد في الطاقة والمياه.

إذن، ما هو المصير؟ وكيف يمكن الخروج من ظرفية الأردن الراهن، في ظل طروحات رسميّة وشعبية ونخبوية متقاطعة، لا يمكنها التلاقي مطلقاً، ما دام الفعل الاحتجاجي يبحث عن إحداث فراغٍ لمساحة تحرّكه، ومطالبه بالوصول إلى حكومةٍ منتخبة برلمانياً، وملكية دستورية وديمقراطية خالية من التشوهات؟
لعلّ الخيار أمام الحركات الاحتجاجية هو الإبقاء على ذخيرتها، في مجموعةٍ من الأداءات الراهنة التي تشمل: التظاهر والاعتصامات وحملات الدعم والمناشدة والبيانات الصحافية والوقفات الاحتجاجية في العاصمة والأطراف، أو حتى في حديث الندوات النخبوي.
في المقابل، هناك من لا يروق له جملة هذه الأداءات الاحتجاجية، ويصل الأمر به إلى الدعوة إلى حرمان الناس المشاركين في الاحتجاج من حقوقهم، ومعاقبتهم، وهو خطابٌ لا يمت للمنطق والعقل بصلة، وهناك من يرى أن رأس المال في البلد هو المساحة المسموح بها من فعل احتجاجي، والإبقاء على الراهن كما هو، والاكتفاء بمراقبته. وهناك من يرى فيه حقا مكتسبا ومقننا ومحفوظا دستورياً.
أما مؤهلات البقاء للحراك، فهي نابعةٌ من صعوبة إحداث الحكومات تغييرا إيجابيا ملموسا في ظل الواقع الصعب، وسعي الحكومات إلى تغليب أولوية الاقتصادي على السياسي. هنا يصعد الخطاب الاحتجاجي للحلول في فراغ الحيز السياسي، المتروك أصلاً من الأحزاب، كونها لا تشكل قوىً فاعلة، وتفتقد للجهمور المنتمي الفاعل، وفي ظل غلبة البنى التقليدية في المجتمع.
وهنا تبرز الحركة الاحتجاجية ذات الطابع الريفي، أو المديني، من أصولٍ ريفية، في محاولة الإبقاء على فعل الاحتجاج، لغايات إحداث مزيدٍ من الإصلاح ومكافحة الفساد، وللإبقاء على المجال العام مفتوحاً، حتى لا يغلق المشهد بلا أي إنجاز. وهو مشهد شعبي نجح إلى الآن في تثبيت حضوره، والضغط على الحكومات في الاستمرار بالجهد العملي لأجل مكافحة الفساد، أو تخفيف حدّة القرارات الاقتصادية الموحعة لجيب المواطن.
في مقابل هذا الواقع الاحتجاجي، يشهد الأردن حركةً كثيفةً داخل أذرع الدولة، للإبقاء على حكومة عمر الرزاز، بوصفه صاحب مشروع إصلاحي، عنوانه الاقتصاد وليس السياسة. وهو أمر كشفته زيارتا الرجل أخيرا إلى العراق وتركيا. وجاء رده بعد إقرار الموازنة في مجلس النواب أخيرا، ليؤكد على أولوية تنشيط القطاع الاقتصادي، وتعميق التعاون بين القطاعين، العام والخاص، ومشدّداً على ابتعاد الأردن في علاقاته الخارجية العربية عن الاصطفافات والخلافات السياسية.

كان هذا التوكيد على الابتعاد الأردني عن الاصطافات السياسية في لغة الرزاز أمام النواب مهماً، لكنه يكشف أن الأردن غير قادرٍ على البقاء في صف حلفائه التقليديين، وقد يبتعد عنهم من دون الإعلان عن مناصرة آخرين، في محاولةٍ من الرزاز، لتبرير تحركات حكومته بالاتجاه نحو تركيا والعراق ودول أخرى.
في المقابل، لا تنشغل الحركة في الشارع الأردني حالياً في احتجاجها بتعابير تخصّ القضية الفلسطينية أو البيت العربي أو الوحدة العربية، أو حتى العروبة في حالتها الراهنة، فالضربة التي تلقاها الأردن بعد العام 1990 جرّاء موقفه مع العراق، ما زالت حاضرة بوجعها. ولذلك تتحد الأصوات المحتجة اليوم بشعاراتٍ رافضةٍ الجباية والفساد والسياسات العامة والرسوم، مثل تسعيرة الوقود وفاتورة الكهرباء وفرق الوقود وقانون العفو العام وارتفاع الأسعار وإصلاح التعليم وآثار قانون الضريبة الجديد، بمعنى أن الانتقال حدث ووجه إلى المعاش اليومي والسياسة الداخلية.
في هذا السياق التداولي للمطالب، يبقى الرهان على قدرة الحكومة على تقليل حجم الفوارق الطبقية، والآثار المباشرة لسياساتها الاقتصادية على المواطن، وفي سعيها الحثيث إلى إعادة ألق القوة لنظام الإدارة العام الذي يشهد ضعفاً بيّناً، وفي دفع البلاد إلى وضع اقتصادي أفضل. ولعل هذا ما دفع عمر الرزاز للقول أخيرا، إن الأردن يتطلع إلى دور في مسألة إعمار سورية. ويتطلب هذا الدور بالتأكيد توافقا مع الحكم في سورية، وبالتالي إعادة العلاقات إلى ما قبل 2011، بغض النظر عن نتيجة السنوات المريرة على السوريين حتى اليوم.
خلاصة المشهد، لا يعود الفعل الاحتجاجي إلى الوراء، والحكومات هي التي تقرّر بقاء هذا الفعل، بصدقيتها وقدرتها على تجاوز تحدي الاقتصاد، وإطلاق مشروع إصلاح سياسي حقيقي، ينهي حالة العسر والجمود الديمقراطي، بما يحقق استعادة الثقة بالجمهور الذي يراقب ويشارك وينتقد بفاعلية كبيرة، ويصنع رأيه العام بتسارع مذهل.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.