الأردن المكلوم الحزين

29 أكتوبر 2018
+ الخط -
عصفت بقلوب الأردنيين جميعا كارثةٌ وطنيةٌ، ومأساة إنسانية كبرى، وهم يتلقون، مصدومين جزعين مذهولين، نبأ السيل الجارف الغادر الذي أودى بحياة ما يزيد على 21 ضحية، معظمهم أطفال، وذلك في أثناء مداهمة الأمطار الغزيرة لهم. وكانت الجهات المختصة بأحوال الطقس قد أعلنت عن هذه الأمطار، مصحوبة بعواصف، على مدى أسبوع قبل الحادثة. والمعروف لدى الجميع أن التعاطي مع حالة الطقس في الأردن لا يكون محايدا، متروكا للطبيعة كي تأخذ مجراها، وتجود علينا بخيراتها فترتوي الأرض وينبت الزرع، فيما الجسور ثابته راسخة، والشوارع آمنة.
يتأهب المواطن الأردني، في فصل الشتاء خصوصا، ويحتشد ويتحصّن، ويعتبر الحالة الجوية شأنا خاصا، عليه التصدّي له منفردا وبأعلى جاهزية، سيما إذا وردت أنباء عن احتمال انهمار أمطار مصحوبة بعواصف رعدية أو تساقط ثلوج. وترتبط النشرة الجوية بمجموعة تقاليد وسلوكياتٍ ألفناها في الأردن، مثل الإقبال على شراء مشتقات الوقود والخبز والحلويات ومختلف أصناف الأغذية من مستلزمات المكوث الطويل داخل البيوت. وتشهد الأسواق نشاطا ملحوظا قبيل الإعلان عن أي موجةٍ هوائية باردة.
المقصود أن هطول تلك الزخّات المشؤومة من المطر في ذلك الوادي الحزين، المتواري بين جبال البحر الميت، لم يكن مفاجئا تماما، فالجميع كان يعلم بأمره. وبالتالي كان قرار تسيير الرحلة المدرسية في ذلك الجو، وتلك المنطقة الخطرة، طائشا أرعن مستهترا عديم المسؤولية، دفع ثمنه جسيما أولئك الصغار المساكين، حين ارتفع، في لحظةٍ خاطفةٍ، غير محسوبة من عمر الزمن، منسوب السيل، وتعاظمت قوة جريانه، فجرفهم مبتلعا أرواحهم الغضّة في لحظة غافلة غاشمة، في أثناء انخراطهم في رحلة مغامراتٍ، نظمتها المدرسة الخاصة لطلابها المغدورين، لغايات اكتسابهم مهارات روح المغامرة وتنميتها لديهم! وذلك بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم، وضمن إجراءاتٍ إداريةٍ روتينيةٍ متبعةٍ في مثل هذه الحالات، تتلخص في مخاطباتٍ رسميةٍ حسب الأصول.
وتتبع العالم بكثير من الحزن والتعاطف مشاهد انتشال الجثث التي توالت على الشاشات التي رصدت مشاهد الأهل المكلومين، وهم يبحثون بهلع عن جثث صغارهم الذين غادروهم صباحا بكل الفرح والحماسة، وعلى يقين برجوع مسائي يحكون فيه عن مغامراتهم، ويضيفون من خيالهم المتدفق الواسع المبالغات البطولية، وينعمون بعشاءٍ ساخنٍ، فرحين بدفء البيت وحضن العائلة، غير أن ذلك كله لم يحدث، وكان على الأهالي تقبّل تلك الحقيقة الموجعة القاتلة، عن رحيل صغارهم الأبدي. اشتعلت مواقع التواصل بعبارات السخط والغضب والتنديد، وتبادل الجميع التهم بالتقصير والإهمال والفساد. وعلت أصواتٌ غريبةٌ، تدين زيارة البحر الميت باعتباره منطقةً ملعونة، ونشرت سيدة قبيحة الروح "بوستا" مريعا شامتا، كون الأولاد يتعلمون في مدارس خاصة، ما يعني أنهم ينتسبون إلى طبقة "هاي". وبالتالي، وبحسب تعبيرها المجرم السادي المتوحش، "الله لا يردهم".
ليلة من السواد والحزن والغيظ جللت كل الأردن. اكتظت بيوت العزاء بالأردنيين المتضامنين، ونُكّست الأعلام وأعلن الحداد. وهناك من طالب بإقالة مسؤولين عاملين، ومحاسبة سابقين، وملاحقة متعهدين. وثار نقاش طويل عن القضاء والقدر، استند أصحاب هذا الطرح، من باب التخفيف على ذوي الضحايا، إلى آيات قرآنية كريمة، تحث على الصبر، وتؤكد حتمية الموت في أجل معين، إذا ما حان "فإننا لا نستقدم ساعة إزاءه، ولا نستأخر"، كون ذلك شرط الوجود الأساسي الذي يشمل البشرية جمعاء، ولا تستطيع أمامه رفضا أو حتى اعتراضاً، غير أن ذلك لم يخفّف من حدة اللوم، ولم يحل دون ثورة الغضب والحزن الذي حل في كل البيوت الأردنية، التي فقدت، إلى أجل غير مسمّى، إحساسها بالأمن والأمان، تغمد الله الضحايا بالرحمة، وجبر قلوب ذويهم الملتاعة.. وكان الله في عون الوطن المكلوم على غير صعيد.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.