لا يزال أكثر من 25% من سكان الأردن، أغلبهم من فئة الشباب، بحاجة إلى تلقي علاج نفسي مناسب، نتيجة إصابتهم بأمراض نفسية مختلفة، وليس ذلك راجع فقط، لتدني قدرات المملكة في توفير العلاج والأطباء النفسيين، القادرين على مواكبة هذه النسبة الكبيرة، بل إن "وصمة العار"، التي تلاحق عائلة المصاب بمرض نفسي، في عين ومنظار المجتمع، تمنع أغلب هؤلاء من العلاج، وفق ما كشفه لـ"جيل"، مدير المركز الوطني للأمراض النفسية في الأردن، نائل العدوان.
وعلى ما يبدو، فإن التقليل أو حتى العمل على مواجهة انتشار آفة الأمراض النفسية في الأردن، خاصة في أوساط الشباب، لن تكون سهلة، إذا ما علمنا، أن معضلة نقص أطباء الاختصاص في الأمراض النفسية الأردنيين، تواصل مسيرتها.
ويقدر العدوان، عدد الأطباء النفسيين في الأردن، بنحو 110 أطباء، 75 منهم في القطاع الخاص، والباقي يعملون تحت مظلة وزارة الصحة الأردنية، وما يجعل الاردن، أقل البلدان مقارنة بالبلاد المجاورة، في عددهم.
من جانبها، تكشف بيانات منظمة الصحة العالمية، أن ما نسبته، 0.5 من مجموع الأطباء النفسيين في المملكة، مؤهلين لعلاج 100 ألف أردني، من مجموع السكان، ما يعني، ومع الزيادة المضطربة في عدد الإصابات، فإن الأمور تتجه للأسوأ.
وفي ما يتعلق بأسعار العلاج، بحسب مصدر مسؤول في وزارة الصحة الأردنية، رفض كشف هويته لـ"جيل"، فإن الجلسة الواحدة في العيادات الخاصة، تكلف المريض وذويه ما بين 50 الى 70 دينارًا أردنيًا، فضلًا عن أن أسعار بعض الأدوية تصل تكلفتها إلى أكثر من 450 دينارًا أردنيًا، شهريًا.
وتنأى شركات التأمين بنفسها عن تغطية الأمراض النفسية، وتعتبرها من الكماليات، غير الضرورية، فيما تكشف وزارة الصحة، أن 5 بالمئة من الأردنيين فقط، وبناء على التكلفة العالية، يتمكنون من الحصول على العلاج، في حين، يفقد أكثر من 80 بالمئة من المرضى فرصتهم في الاقتراب من الحد الأدنى من العلاج.
كل ذلك يحصل، ووزارة الصحة الأردنية، تؤكد على الدوام، أنها تؤمن العلاج للمرضى النفسيين في المملكة، إلا أن منظمة الصحة العالمية، تكشف أن قدرة المملكة على تأمين العلاج، لا تتجاوز نسبة 2 بالمئة فقط، من مجمل نفقات العلاج الصحية.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن قلة أعداد العيادات، التي تتخصص في علاج الأمراض النفسية، شهدت ولا تزال تشهد حتى اللحظة، اكتظاظًا كبيرًا في أعداد المراجعين، ما يجعل من مسألة تحقيق العلاج في حالته المثالية، شبه مستحيلة.
ونظرًا لقلة العيادات، فإن العيادات الخاصة، تستقبل يوميًا، أكثر من 70 حالة، علمًا، أن العيادات الخاصة، محصورة في العاصمة عمان، والتي يقدر عددها بنحو 30 عيادة، فيما تشهد عيادات عمان الاستشارية، التابعة لوزارة الصحة الأردنية، ما يزيد عن 200 زيارة في بعض الأيام.
وتبدو الجلسات العلاجية في هذه العيادات، سواء خاصة أو حكومية، ليس كما يشاهده الجمهور في الأفلام، فإنها عادة لا تستغرق سوى دقائق معدودة في الواقع، لتنتهي بوصف الطبيب بعض الأدوية، وتشخيص سريع للحالة، وذلك، مخالف للبروتوكول المتعارف عليه بين الأطباء النفسيين، حيث أن جلسة العلاج، لا بد أن تتراوح من 45 دقيقة إلى ساعة، على أن تتكرر أسبوعيًا.
كما ساهم غياب الوعي المجتمعي أيضًا إلى حد كبير جدًا، في إفراز إحصائية أكثر دقة بعدد حالات المصابين من الأردنيين، تحديدًا الشباب، وذلك لغياب دور الإعلام في إثارة أهمية الصحة النفسية في الأردن، وبيان حقيقة الإشاعات والقصص الخرافية عن جلسات العلاج، من مثل، الصعقات الكهربائية، واعتبار المريض، من طائفة المجانين، وممارسة طقوس من الاضطهاد والإهانة عليه من قبل الأطباء النفسيين، بحسب عالم الاجتماع، مجد الدين خمش.
إلا أن هذه النظرة المجتمعية، يستدرك خمش، خلال حديثه لـ"جيل"، بدأت تذوب وتتقلص، مع الزيادة المضطردة في عدد حالات الإصابة بالأمراض النفسية، حتى غدا المجتمع الأردني، أكثر تقبلًا لفكرة العلاج النفسي.
ويضيف المتحدث، أن الإعلام الغربي، وتحديدًا من خلال الأعمال السينمائية الحديثة، ساهم أيضًا، في تحسين صورة المعالج النفسي، الذي هو بالأساس، طبيب عام، ثم تخصص بالعلاج النفسي، مع اختفاء طريقة العلاج التحليلي، كما كانت تصور في سنوات الثمانينيات والتسعينيات، إلى الاعتماد على وصفات الادوية، وهو ما إفرز حالة ارتياح، نوعًا ما، لدى الجمهور الأردني.
وأما الأمراض النفسية في الأردن، يؤكد مدير المركز الوطني للأمراض النفسية نائل العدوان، أن أكثر هذه الأمراض انتشارًا في المجتمع الأردني، محصورة في "الاكتئاب والقلق النفسي والخوف"، وأما تلك التي تعد بين الأمراض الأقل انتشارًا، وهي الأصعب في تجاوزها وعلاجها، فهي "الانفصام العقلي والأمراض الذهنية الأخرى، واضطرابات المزاج ثنائية القطب".
وكنتيجة حتمية لانتشار هذه الأمراض بين الشباب الأردني، خاصة أمراض الاكتئات والانفصام، فقد سجلت حالات الانتحار ومحاولات الانتحار، ارتفاعًا مخيفًا، عقب عجز الدولة ومؤسساتها في الوقوف أمام مد ظاهرة انتشار الأمراض النفسية.
فقد سجل عام 2016، انتحار 120 أردنيًا وأردنية، غالبيتهم من الشباب والشابات، إضافة الى تسجيل 600 محاولة انتحار، كانت نسبة 40% منها، لأشخاص مصابون بأمراض نفسية، في حين، سجل عام 2010، انتحار 42 شخصًا، و400 محاولة انتحار، بحسب خمش.
تصر الجهات الرسمية، أن الأسباب الحقيقية التي تساهم في انتشار الأمراض النفسية في الأردن، راجع في الأساس، لأسباب جانبية، ومنتشرة في كل المجتمعات العالمية، وليس فقط في الأردن، إلا أن العديد من الدراسات والأبحاث، والتي أجراها متخصصون بالطب النفسي في الأردن، أمثال، الراحل، محمد الحباشنة، تشير إلى أن ارتفاع نسب الفقر في المجتمع، وإنتاج طوابير من الشباب العاطلين عن العمل، هي التي تغذي الإصابة بالأمراض النفسية في الأردن، وخاصة بين الشباب.
ولأن فجوة الفوارق الطبقية في الأردن، تواصل اتساعها، بسبب حصر الثروة في يد فئة قليلة جدًا من المجتمع، وحرمان بقية المواطنين منها، من خلال فرض ضرائب جديدة على الطبقة الكادحة، وراتفاع تكاليف الحياة اليومية، وبشكل جنوني، فإن ظاهرة انتشار الأمراض النفسية، قابلة للاتساع والتمدد.
الجدير ذكره، أن مستشفى المركز الوطني للصحة النفسية، والتابع لوزارة الصحة الأردنية، استقبل وحده أكثر من 9 آلاف مراجعًا ومراجعة للعيادات الخارجية، خلال العام 2016، وفق ما كشفه مدير المركز، نائل العدوان، للصحافة المحلية مؤخرًا.