05 يونيو 2017
الأحزاب الشيعية وتكريس الطائفية في العراق
يُنتج نظام المحاصصة الطائفي الأزمة تلو الأخرى، لأنه يقوم على توازنات هشّة بين الطوائف، سرعان ما تُحوّل حرب النفوذ بينها داخل المؤسسات إلى قتالٍ في الشوارع. في العراق، نموذج المحاصصة الذي أسسه الاحتلال الأميركي، قبل أكثر من عشر سنوات، يصنع احتراباً أهلياً وانعداماً للاستقرار، يُعاد إنتاجه باستمرار، ما يهدد البلاد بالتفكك والتقسيم.
النظام الذي صممه بول بريمر، تهيمن عليه الأحزاب الشيعية التي اتخذت من الاحتلال الأميركي جسراً للعبور إلى السلطة. الحديث هنا ليس عن "شيعة العراق"، اللفظ ذي الدلالة الطائفية، والذي يستخدمه بعضهم لاستنكار طائفية النظام الحالي في العراق، ويؤدي به إلى الانخراط في الفتنة وخطابها. الحديث هو عن الأحزاب الشيعية الطائفية، ممثلةً في حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى وحلفائهم، التي تُسيِّس الهوية المذهبية الشيعية، وتنبري لتمثيل الطائفة الشيعية في نظام المحاصصة.
تقدّم الأحزاب الشيعية ادعاءين، يبرران هيمنتها على نظام الحكم الحالي، إذ تدّعي أن مظلوميةً تاريخية وقعت على الشيعة، طوال عمر العراق الحديث، فقد تم إقصاؤهم من الحكم، وحكمت الأقلية السنية. وتدّعي هذه الأحزاب أن للشيعة الحق في حكم العراق، باعتبارهم أغلبية سكانه. تتبنى الأحزاب الشيعية رواية عن حكٍم سنيٍّ مهيمن تاريخياً على الدولة العراقية، وتتحدث عن طائفية نظام صدام حسين خصوصاً، لتبرر طائفيتها في مواجهته، لكن فحص الوقائع التاريخية يبدد صدقية هذه الرواية.
لم يكن هناك حكم سني للعراق، فمن حكموه، بدايةً من الهاشميين، مروراً بعبد الكريم قاسم ومن جاء في عصر الانقلابات، ووصولاً إلى صدام حسين، لم يقيموا أنظمة حكم سنية، ولم يقدموا أنفسهم ممثلين للسنة، بل كانوا علمانيين. وكان الشيعة مشاركين في الحياة السياسية، وإن امتنعت مراجعهم في النجف عن ذلك، فقد كانوا عماد الأحزاب القومية واليسارية في العراق، وخصوصاً حزب البعث.
في بدايات تأسيس حزب البعث في العراق، تشكلت أول خليتين في المناطق الشيعية، حيث شكّل نعيم حداد خلية في الناصرية، وسعدون حمادي (أول بعثي في العراق كما يُروى) خلية في النجف. وعندما تشكلت أول قيادة قُطرية للحزب عام 1953، كان معظمها من الشيعة، إذ ضمت فؤاد الركابي (أمين سر) وجعفر حمودي وآخرين.
لم يكن الشيعة ممنوعين من تبوّء مناصب عليا في نظام صدام، فقد تولى سعدون حمادي ومحمد حمزة الزبيدي، مثلاً، مناصب رفيعة في الحكومة. وحتى في الجيش الذي لم يتحمس الشيعة لدخوله في بداية تأسيسه في العشرينات، وصل عسكريون شيعة إلى منصب رئيس الأركان، كما أن الشيعي سعدي طعمة الجبوري صار وزيراً للدفاع في عهد صدام.
تستخدم الأحزاب الشيعية حججاً متهافتة لإثبات طائفية نظام صدام، مثل القول إنه قتَل عديدين من علماء الشيعة، بينما تثبت الوقائع أنه قتل المتمردين منهم على حكمه، فيما لم يمس علماء شيعة آخرين لم يعارضوه. كذلك، فإن منع بعض الطقوس الشيعية كالتطبير (ضرب الرأس بالسيوف والآلات الحادة) لم يكن استهدافاً للتشيع، بل مُنِع لقناعة النظام بأن هذه مظاهر "غير حضارية"، ما دفع النظام لمنع أتباع الطريقة الرفاعية الصوفية من ممارسة ضرب البطون بالسيوف.
ولم يكن قمع انتفاضة عام 1991، استهدافاً للشيعة، فمن تصدت لها، من البداية، ميليشيات حزب البعث من الشيعة في العمارة والناصرية والبصرة، ولم يكن هناك وقت حينها (حتى لو توفرت الرغبة) لاستقدام أشخاص من المناطق السنية، وقد ساعد الجيش على القمع، وخصوصاً في كربلاء، وهو الذي أكثر من نصفه جنودٌ شيعة.
كان نظام صدام مستبداً مجرماً يقمع معارضيه، لكنه لم يكن طائفياً، بل همّش صدام حزب البعث لصالح عائلته وعشيرته، وعائلة "المجيد" المنحدرة من تكريت ليست "الطائفة السنية". ما فعلته الأحزاب الشيعية هو الانتقال من حكم العائلة إلى حكم طائفة الأغلبية، مع أن منطق اللعبة الديمقراطية لا يعترف بأغلبيةٍ طائفيةٍ لها الحق في الحكم، بل يؤكد على أغلبيات وأقليات متبدلة، تبني خطابها على أساس برامج عمل سياسية، تطلب من خلالها ثقة الناخبين، لتمثيل الجماعة الوطنية كلها في الحكم، لا تمثيل طائفةٍ منها.
لم تنتج هيمنة الأحزاب الشيعية، ورئيس الوزراء نوري المالكي، سوى الفشل الأمني والتنموي، والازدياد الكارثي لمعدلات الفساد، وفتح الباب أمام التدخلات الخارجية، وتضييع استقلال البلد، وشعور السنة العرب بالتهميش، ما أدى إلى إيجاد بيئة حاضنة في أوساطهم لخيارات متطرفة مثل داعش.
إن نقد الأحزاب الشيعية في تسييسها الهوية المذهبية هو، بالضرورة، نقد "للسنية السياسية"، واستنكار استدعاء الأحزاب الشيعية النفوذ الإيراني، يكمله رفض استدعاء النفوذ التركي وغيره. من حق المهمشين في الوسط السني رفض تهميشهم، لكن تبنّي ردة فعل طائفية على طائفية السلطة سيؤدي إلى ديمومة الأزمة. في لبنان، بدأت الحرب الأهلية بثورة يسارية على اليمين الانعزالي، وتحولت إلى صراع طائفي، وانتهت إلى تعديل التوازنات الطائفية، وإبقاء المحاصصة، فاستمرت أزمة النظام.
يحتاج العراق إلى مشروع وطني، يتعالى على التقسيم الطائفي، ويواجه نظام المحاصصة بمشروع دولة المواطنة. من دون ذلك، نكون أمام الحرب الطائفية، وخطر التقسيم.