هناك صورة قديمة أبحث عنها بلا جدوى في بريدي الإلكتروني، التقطتْ في باب العمود في الليل. نسيت من كان معنا، أذكر أنها كانت صديقة لنا و"أجنبية". حين أقول أجنبية فإنني أتحدث بالعامية من طفولتي حين كنّا نشير لمن ليس عربياً بكلمة "أجنبي".
اليوم لم أعد أسمح لنفسي بهذا. حين ينضج المرء، بفضل الخيبات المتتالية، سيُدرك أن كل إنسان أجنبي في وجوده وكينونته؛ فكيف يسمح هذا الأجنبي لنفسه بأن يسمّي الآخرين أجانب؟
الجرح الاستعماري في فلسطين والمنطقة العربية أكسب كلمة الأجنبي دلالات بالغة السلبية. في شعر الجواهري مثلاً تكاد كلمة الأجنبي أن تكون مرادفاً للمستعمِر. في حين أن الأخير قد يكون أجنبيّ اللغة وقد يكون عربيّ اللسان أيضاً. الاستعمار - كعلاقة - حالة متجاوِزة للقومية وكثيراً ما تنحلّ في صيغ وأشكال "وطنية". ولهذا ابتكر المثقف العربي في العقود الأخيرة مصطلح "غزاة الداخل" لتوصيف أشكال من الاستغلال والتدمير الوطني ترقى إلى مستوى الاستعمار.
أحد معاني الأجنَب في اللغة العربية؛ الذي لا ينقاد. وهو معنى منسيّ يمكنه أن يعلي من شأن حرية الاختيار والتفكير، ويخلّص بالتالي كلمة الأجنبي من حمولتها الاستعمارية ودلالاتها السلبية التي رسّختها الدول والممارسات الاجتماعية العنصرية المترسّبة في مختلف الثقافات، بل وحتى تحرير الكلمة من جذورها اللغوية الأخرى المرتبطة بفعل الاجتناب والتجنّب كمقدمة لفعل الإقصاء.
ارتبطت كلمة الأجنبي بتشكّل الدولة الوطنية التي قسمت الناس ظاهرياً إلى مواطنين وأجانب، وهي مفردة حديثة نسبياً على اللغة العربية. تاريخياً خدمت مكانها كلمة الغريب. "ليس غريباً من تناءت دياره" يخبرنا امرؤ القيس، في لحظة قاسية من زمنه الأخير جعلته يدرك أن كلّ غريبٍ هو نسيبٌ للغريب.
في أزمنة التحرّر، "الأجنبي" هو من لا تعنيه قضيتنا، وبلغة أبسط: من لا تعنيه حياة وكرامة الناس ولا مستقبل أطفالهم. بهذا المعنى، ما أكثر "الأجانب" الذين لا يعرفون إلا لغتنا ولا يتحدثون إلا بلهجاتنا.