01 نوفمبر 2024
الأجدر مقاومة التطبيع في رأس الدولة التونسية
لا أنكر استهجاني الشديد للاعتداء الذي تم على منبر أكاديمي، ذي حُرمةٍ علمية، أمّته مجموعة من صُنّاع الأفكار، ومبدعيها، ممن يحتلون مكانةً مرموقة، في جامعات عربية وغربية في اختصاصات العلوم الإنسانية والاجتماعية والاستشراف وعلم المستقبليات، من العرب، والعرب الفلسطينيين، والعجم، ومن المسلمين والمسيحيين واللائكيين، المعروفين بمساندتهم الدائمة للقضية الفلسطينية، الناشطين في عواصم أوروبية وأميركية وعربية وإسلامية، تنادوا في مؤتمر علمي يدرسون ويتدارسون استراتيجيات مقاطعة الاحتلال الصهيوني وسبل تفعيلها، كما يوحي بذلك عنوان مؤتمرهم.
إن تنظيم مؤتمر "استراتيجية المقاطعة ضد الاحتلال الإسرائيلي ونظام الأبارتهايد الواقع والطموح"، في حدّ ذاته مقاومة للتطبيع، وفيه استفزاز عميق للكيان الصهيوني، وتأثيم له ومحاولة لتجريمه ومحاصرته لدى نخبة فاعلة في الجامعات ومؤسسات البحث، وحتى في مراكز القرار الغربي والعربي. أما أن ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فهذا يحسب له، وليس عليه، ويخرجه من دائرة برودة البحث العلمي وحياديته المزعومة إلى حرارة الواقع العربي، وسخونة القضية الفلسطينية الحارقة.
وإن نقاشاً هادئاً ورصيناً حول القضية الفلسطينية التي تعدّ أم القضايا العربية، والكونية، لا يمكن أن يكون بالتشويش على المؤتمرات العلمية المتعلّقة بها، وتصنيف الباحثين ضمن علب أيديولوجية ضيّقة، حرّرهم منها البحث العلمي، وفتّح أبصارهم وبصائرهم على الحقائق التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، ما يستوجب إعمال العقل قوّةً ثاقبةً ومنيرة في الوقت نفسه، فالنضال العلمي ضدّ الصهيونية العالمية والدفاع عن فلسطين العربية من أشكال نصرة هذه القضية العادلة، ما يساعد على إبراز حقائقها التاريخية المراد طمسها. أُنجزت آلاف المؤتمرات العلمية والسياسية والخطابية، منذ مؤتمر القدس الذي نظمه المفتي أمين الحسيني سنة 1931، ونسق أعماله الشيخ الوطني والقومي العربي والإسلامي عبد العزيز الثعالبي، وإلى اليوم، لا شك أن مؤتمر الحمامات حول استراتيجية المقاطعة أحدها، وفي ذلك عبرة ودلالة بشأن استمرار دور تونس في الدفاع عن فلسطين في ظروفٍ مغايرةٍ، وغير مساعدة على خدمة العرب وقضاياهم.
التاريخ المتميز للتونسيين مع القضية الفلسطينية، وحجم التضحيات التي قدّموها لأجلها، ودعمهم
لها بالدم والنفس والمال، والقتال في جبهاتها وإيواء منظمة التحرير وما نجم عنه من ضرب مقرّها في ضاحية تونس الجنوبية سنة 1985 التي اختلط فيها الدم التونسي والفلسطيني، ما يرمز إلى اختلاط الدم العربي ووحدته من أجل فلسطين، ذلك كله لا يحجب عنّا أمر محاولات الاختراق والتغلغل الصهيوني في تونس، ليصل إلى هرم مؤسسات الدولة، وإلا كيف نفسّر تولي وزارة الخارجية التونسية في حكومة الحبيب الصيد الثانية مطلع 2016 وزير اشتغل سفيراً لتونس في دولة الكيان الصهيوني في فترة حكم بن علي؟ وكيف نفهم تولي وزارة السياحة في الحكومة المنبثقة عن رباعي الحوار الوطني، بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي ولّى أمر البلاد لمهدي جمعة سنة 2014، وزيرة كانت تتباهى، في سيرتها الذاتية، بأنها تزور "دولة إسرائيل" بانتظام وبصفة متواترة، ناهيك أنها وصفت التونسيين بالعنصرية، لموقفهم الرافض للاحتلال الصهيوني بعد خروجها من الوزارة؟
بصفتي عضواً في البرلمان التونسي، استحلفت نواب الشعب باسم الإسلام والعروبة والوطنية والإنسانية، أي بما يتماشى مع القيم والمبادئ التي يؤمن بها البرلمانيون التونسيون، لكي لا يصوّتوا لوزيرٍ اشتغل سفيرا في "دولة إسرائيل"، عشية منح الثقة لحكومة الحبيب الصيد الثانية، ولم يستجيبوا لهذه الاستغاثة. أشهد أني لم أر أحدا ممن اقتحم مؤتمر الحمامات يلج مقر مجلس النواب، أو يتظاهر أمامه رافعاً العلم الفلسطيني، ورافضاً تسمية وزراء لا يرون في التطبيع حرجاً، أو آخر محتجّاً على الحكومات التي اشتغلوا فيها، أو مندّدا بقبول البرلمان، أو المجلس التأسيسي، بمثل تطبيعٍ كهذا. ولم أشاهد كذلك أي مطالبةٍ للحكومة التونسية بفتح تحقيق في قضية اغتيال الزعيم الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في ضاحية تونس الشمالية، في ظل حكم بن علي سنة 1988، وقرب قصر الرئاسة التونسي، أو أي احتجاج على ذلك بالقرب من قصر الحكومة في القصبة، أو في تخوم مجلس النواب، ناهيك أن الدولة العبرية اعترفت، على هامش مناقشة إدراج مبدأ تجريم التطبيع في الدستور التونسي، المبدأ الذي رفضه أغلب النواب المؤسسين، بأنها من ارتكب جريمة اغتيال الزعيم الفلسطيني، بل ونشرت أسماء فريق الكوماندوس منفذ العملية وأعلنتهم "أبطالاً قوميين"، من دون أن يعمل أحد على جرّهم إلى محكمة الجنايات الدولية، أو حتى شكواهم إلى هذه المحكمة. وهناك أمثلة أخرى كثيرة مرّت بدون ردّ فعل، أو بردود محدودة على مطبّعين من الفنانين والأكاديميين والسياسيين التونسيين الذين زاروا "إسرائيل"، أو التقوا وفودا "إسرائيلية" في الخارج، أو وجهوا لها الدعوة للحضور في الداخل التونسي، وبعض المؤتمرات العلمية والأكاديمية شاهدٌ على ذلك.
لا يعني استعراض مثل هذه الأمثلة أن التطبيع مع الكيان الصهيوني وساسته ومثقفيه بات
مقبولاً في تونس ولدى نخبها، وإنما ينبهنا إلى أن رفض التطبيع لا يكون موسمياً وخاضعاً لأجندات سياسيةٍ، أو لعصبيات أيديولوجيا، أو يوظف في صراعاتٍ بين أنظمة عربية، لأن القضية الفلسطينية، بوصفها قضية قومية عربية، تعلو على كل الصراعات العربية، فهي أسمى منها جميعا، وهي بوصفها تمثّل قضيةً إنسانيةً شاملةً، بسبب الظلم والاضطهاد والتصفية على أساس الهوية والقتل اليومي والتعذيب المنهجي والمعتقلات الجماعية وافتكاك الأرض من أصحابها، ومنحها لمحتلٍّ دخيلٍ عنوة وبالقوة، فإن أكاديميين وساسة ورجال فكر وفن ومواطنين عاديين في بلدان المركز الغربي الذي يُصنع فيه القرار الدولي، أبدوا استعداداً لتشكيل قوى ضغط في مجتمعاتهم ودولهم، ولدى حكوماتهم من أجل نصرة فلسطين والفلسطينيين وقضيتهم العادلة.
ويشكل مؤتمر "استراتيجية المقاطعة" الذي عقد في تونس، واختتم أعماله أمس، السبت 6 أغسطس/ آب، حلقةً مهمة، مهما بلغ صغر حجمها في هذا الاتجاه، فالقضية الفلسطينية في حاجة إلى المقاومة الميدانية بأشكالها المختلفة، لكنها في أشدّ الحاجة إلى غطاء سياسي ودولي سميك، ودعم مادي ومالي، وإلى دعاية وإعلام، ما لا يمكن أن يتوفر بدون الانخراط في "اللوبييغ" الذي بات من ضرورات النضال السياسي والمدني، ومن مقتضيات الحياة والاستمرار في عالمٍ انخرمت فيه التوازنات، وسيطرت الصهيونية العالمية على مراكز القرار في دوله الكبرى، وانهارت فيه الدول العربية نصيرة القضية الفلسطينية، وتلاشت فيه أفكار التنوير والتقدم والمساواة والحقوق، لتبرز على أنقاضها مفاهيم القوة المطلقة، وشراسة رأس المال والاستعمار الجديد والهيمنة والظلم، وتصفية كل نفسٍ يرغب في المقاومة، ويؤمن بالتحرّر والاستقلال والسيادة الوطنية. تمثل فلسطين القضية القومية العربية بامتياز، مشتركاً بين جميع الذين يؤمنون بعدالة قضيتها، تأبى أن تكون موضوع مزايدةٍ أو مقايضةٍ، وترفض الضياع بسبب قصر نظر بعض المدافعين عنها، ومحدودية رؤيتهم ومعارفهم، هذا إذا افترضنا من الجميع صدق نياتهم.
إن تنظيم مؤتمر "استراتيجية المقاطعة ضد الاحتلال الإسرائيلي ونظام الأبارتهايد الواقع والطموح"، في حدّ ذاته مقاومة للتطبيع، وفيه استفزاز عميق للكيان الصهيوني، وتأثيم له ومحاولة لتجريمه ومحاصرته لدى نخبة فاعلة في الجامعات ومؤسسات البحث، وحتى في مراكز القرار الغربي والعربي. أما أن ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فهذا يحسب له، وليس عليه، ويخرجه من دائرة برودة البحث العلمي وحياديته المزعومة إلى حرارة الواقع العربي، وسخونة القضية الفلسطينية الحارقة.
وإن نقاشاً هادئاً ورصيناً حول القضية الفلسطينية التي تعدّ أم القضايا العربية، والكونية، لا يمكن أن يكون بالتشويش على المؤتمرات العلمية المتعلّقة بها، وتصنيف الباحثين ضمن علب أيديولوجية ضيّقة، حرّرهم منها البحث العلمي، وفتّح أبصارهم وبصائرهم على الحقائق التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، ما يستوجب إعمال العقل قوّةً ثاقبةً ومنيرة في الوقت نفسه، فالنضال العلمي ضدّ الصهيونية العالمية والدفاع عن فلسطين العربية من أشكال نصرة هذه القضية العادلة، ما يساعد على إبراز حقائقها التاريخية المراد طمسها. أُنجزت آلاف المؤتمرات العلمية والسياسية والخطابية، منذ مؤتمر القدس الذي نظمه المفتي أمين الحسيني سنة 1931، ونسق أعماله الشيخ الوطني والقومي العربي والإسلامي عبد العزيز الثعالبي، وإلى اليوم، لا شك أن مؤتمر الحمامات حول استراتيجية المقاطعة أحدها، وفي ذلك عبرة ودلالة بشأن استمرار دور تونس في الدفاع عن فلسطين في ظروفٍ مغايرةٍ، وغير مساعدة على خدمة العرب وقضاياهم.
التاريخ المتميز للتونسيين مع القضية الفلسطينية، وحجم التضحيات التي قدّموها لأجلها، ودعمهم
بصفتي عضواً في البرلمان التونسي، استحلفت نواب الشعب باسم الإسلام والعروبة والوطنية والإنسانية، أي بما يتماشى مع القيم والمبادئ التي يؤمن بها البرلمانيون التونسيون، لكي لا يصوّتوا لوزيرٍ اشتغل سفيرا في "دولة إسرائيل"، عشية منح الثقة لحكومة الحبيب الصيد الثانية، ولم يستجيبوا لهذه الاستغاثة. أشهد أني لم أر أحدا ممن اقتحم مؤتمر الحمامات يلج مقر مجلس النواب، أو يتظاهر أمامه رافعاً العلم الفلسطيني، ورافضاً تسمية وزراء لا يرون في التطبيع حرجاً، أو آخر محتجّاً على الحكومات التي اشتغلوا فيها، أو مندّدا بقبول البرلمان، أو المجلس التأسيسي، بمثل تطبيعٍ كهذا. ولم أشاهد كذلك أي مطالبةٍ للحكومة التونسية بفتح تحقيق في قضية اغتيال الزعيم الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) في ضاحية تونس الشمالية، في ظل حكم بن علي سنة 1988، وقرب قصر الرئاسة التونسي، أو أي احتجاج على ذلك بالقرب من قصر الحكومة في القصبة، أو في تخوم مجلس النواب، ناهيك أن الدولة العبرية اعترفت، على هامش مناقشة إدراج مبدأ تجريم التطبيع في الدستور التونسي، المبدأ الذي رفضه أغلب النواب المؤسسين، بأنها من ارتكب جريمة اغتيال الزعيم الفلسطيني، بل ونشرت أسماء فريق الكوماندوس منفذ العملية وأعلنتهم "أبطالاً قوميين"، من دون أن يعمل أحد على جرّهم إلى محكمة الجنايات الدولية، أو حتى شكواهم إلى هذه المحكمة. وهناك أمثلة أخرى كثيرة مرّت بدون ردّ فعل، أو بردود محدودة على مطبّعين من الفنانين والأكاديميين والسياسيين التونسيين الذين زاروا "إسرائيل"، أو التقوا وفودا "إسرائيلية" في الخارج، أو وجهوا لها الدعوة للحضور في الداخل التونسي، وبعض المؤتمرات العلمية والأكاديمية شاهدٌ على ذلك.
لا يعني استعراض مثل هذه الأمثلة أن التطبيع مع الكيان الصهيوني وساسته ومثقفيه بات
ويشكل مؤتمر "استراتيجية المقاطعة" الذي عقد في تونس، واختتم أعماله أمس، السبت 6 أغسطس/ آب، حلقةً مهمة، مهما بلغ صغر حجمها في هذا الاتجاه، فالقضية الفلسطينية في حاجة إلى المقاومة الميدانية بأشكالها المختلفة، لكنها في أشدّ الحاجة إلى غطاء سياسي ودولي سميك، ودعم مادي ومالي، وإلى دعاية وإعلام، ما لا يمكن أن يتوفر بدون الانخراط في "اللوبييغ" الذي بات من ضرورات النضال السياسي والمدني، ومن مقتضيات الحياة والاستمرار في عالمٍ انخرمت فيه التوازنات، وسيطرت الصهيونية العالمية على مراكز القرار في دوله الكبرى، وانهارت فيه الدول العربية نصيرة القضية الفلسطينية، وتلاشت فيه أفكار التنوير والتقدم والمساواة والحقوق، لتبرز على أنقاضها مفاهيم القوة المطلقة، وشراسة رأس المال والاستعمار الجديد والهيمنة والظلم، وتصفية كل نفسٍ يرغب في المقاومة، ويؤمن بالتحرّر والاستقلال والسيادة الوطنية. تمثل فلسطين القضية القومية العربية بامتياز، مشتركاً بين جميع الذين يؤمنون بعدالة قضيتها، تأبى أن تكون موضوع مزايدةٍ أو مقايضةٍ، وترفض الضياع بسبب قصر نظر بعض المدافعين عنها، ومحدودية رؤيتهم ومعارفهم، هذا إذا افترضنا من الجميع صدق نياتهم.