الآي آي: ما قالته وهران للأغنية

28 فبراير 2015
في الجزائر العاصمة (تصوير: كريس برادلي)
+ الخط -

صحيح أن الأغنية الجزائرية لم تكن حرّة تماماً في مضامينها وطريقة وصولها إلى الشعب، في ظل نظام سياسي يحمل أيديولوجيا، خصوصاً تلك التي تذاع على التلفزيون والإذاعة الرسميين؛ لكن الشارع الذي خلق لديه هذا النوع من الغناء حالة تبرّم وتهكّم معاً، بادر إلى اعتناق أغنية موازية، وضعت نفسها في قطيعة مع الأغنية الرسمية، هي أغنية "الراي".

تجلت هذه القطيعة في طبيعة الكلمات، إذ نأت بمفردات الأغنية إلى القاموس الشعبي، وفي إيقاعها الموسيقي الذي انحاز إلى السرعة والتنوّع. وفكرياً، تعبّر هذه القطيعة عن صراع بين جيل قديم يحكم باسم الشرعية التاريخية، ويبرر حالات القمع والكبت بالمصلحة الوطنية والحفاظ على القيم الأخلاقية، وبين جيل آخر جديد يطالب بشرعية المواطنة والحياة. من هنا ظهر لقب "الشاب" في مقابل لقب "الشيخ" في أوساط المغنّين.

لم يكن الشاب خالد والشابة الزهوانية والثنائي فضيلة وصحراوي الذين طلعوا من مدينة وهران في الغرب الجزائري، والمدن المجاورة لها، مثل سيدي بلعباس، مطلع الثمانينيات، إلا أصواتاً تعبّر عن فراغ عاطفي، وفشل المشروع الوطني، مع موت الرئيس الاشتراكي هواري بومدين، والمجيء غير المتوقع لرئيس عسكري هو الشاذلي بن جديد.

لم يتوانَ نظام بن جديد عن فتح القنوات الحكومية أمام هذه الأغنية. والهدف كان مواجهة مدّ الإسلام السياسي، خصوصاً بعد التجمع التاريخي للحركات الإسلامية في الجامعة المركزية عام 1981.

شكّل صوت الشاب حسني، ونزعته الرومانسية، نافذة للحلم لدى الشاب الجزائري، في عز صولات العنف المسلح في التسعينيات. فالفتى هذّب كلمات أغنية الراي، مبقياً على شحنتها العاطفية، حتى صار صوتَ الحياة الأقوى في شارع يعجّ بطقوس الموت، قبل أن يُغتال عام 1994. فكان موته بداية لهجرة نجوم الراي إلى الخارج، حيث دشّنوا حضوراً مختلفاً، وخلقوا ثنائيات مع نجوم عرب وغربيين.

لسبب ما، قد يتعلق بتركيبتها الثقافية المتعددة، كانت مدينة وهران منطلقاً آخر لأغنية جديدة في السنوات الأربع الأخيرة، عُرفت بـ"الآي آي". سمّيت هكذا لكثرة تكرار هذه الكلمة داخل مفاصل الأغنية نفسها. ولا ينفي نجومها أنها الابنة الشرعية لأغنية الراي.

لم تبق "الآي آي" حبيسة علب الليل في مدن الغرب الجزائري، بل سرعان ما تبنّتها الأسر في أعراسها واحتفالاتها، ولم تثر الجدل في الأوساط الثقافية والإعلامية والسياسية حتى انتشر فيديو يصوّر حفلاً مدرسياً نهاية 2014، حيث ظهر تلاميذ من الصفوف الابتدائية يرقصون على أنغام هذه الأغنية، تحت تصفيق معلماتهم. فوجّه نواب في البرلمان سؤالاً إلى وزيرة التربية حول ما سمّوه تمييعاً للمدرسة، وشنّ أئمة مساجد حملة في خطبهم على الظاهرة، معتبرين إياهاً تفسخاً أخلاقياً. ولم يتأخر الإعلام المكتوب عن الدعوة إلى وضع حدٍّ لانتشاره هذا النوع الغنائي.

يقول الصحافي حسان زهار إن وصول هذا النوع من الغناء إلى المدرسة الجزائرية، دليل على أن هناك منظومة حاكمة عملت طوال عقود على تشجيع ما أسماه الفن الشوارعي. من جهته، يرى محمد بن زيان، الباحث المتخصص في التاريخ الثقافي لمدينة وهران، أن الظاهرة يجب أن تُقرأ ضمن خروج المجتمع من عشرية العنف ودخوله في وسائط التواصل الاجتماعي، بكل ما خلفته تلك المرحلة من كبت، وبكل ما أتاحته هذه الوسائط من حرية.

ويعتبر بن زيان أنه من التعسف إطلاق صفة الابتذال التام على هذه الأغنية، فهي بحسبه ليست معزولة عن الابتذال الذي يطبع جميع المنظومات: "الظاهرة تستدعي مقاربات معرفية مركّبة حتى نفهمها عوض الاكتفاء بإدانتها".

أما الشباب الممارسون لأغنية الآي آي، فيرون فيها حالة تنفيس داخل وضع سياسي واجتماعي خانق، ويدعون الذين يبتذلونها إلى لعب دورهم كمجتمع مدني في ترشيد الوضع الذي أفرزها.

دلالات
المساهمون