احذروا.. نخلة ستنكسر بعد قليل
سأنكسرُ بعد قليل
إن لم يتُب الموتُ عنّي
سأُقصفُ مثل قشّةٍ يابسة
إن لم تترك يا عزرائيل أحبّتي وشأنهم
أصبحتْ أيّامي كلّها ليلةً واحدة
ناءت بي الذكريات
وأمالتني
حبال السّرةُ التي تربطنا بآبائنا تظهر فقط عند موتهم
حبل السّرة هذا راح يشنقني
سمع أبي أحدًا يصيح: إكرامُ الميّت دفنه
فركض إلى قبره دون أن يلتفتَ إلى عنقي المدمّى
جاءت الجاراتُ لمواساتي
وضعنَ عند جذعي أكياسًا من التعاويذ
فركبتني شياطينُ الشّوقِ الرّجيمة
جاء الوقتُ ومعه أبوه وجدّه وسلالتُه كلُّها
فألوى الحزنُ ظهورَهم وانسحبوا
مرّ عنّي شاعرٌ، فوشوش في عبّ قميصه:
أميل لحبّكِ كمَيل هذه النخلة
حتى أنت يا عزرائيل
وأنت تمرّ مُقلّدًا نسمةً متعفّفة
كلّما وقعت عيناي في عينيك
تتجاهلني وتنسحب؟
■■■
غرق اسم حيفا في بحرها
نسيتُ كيف يُكتب الشِّعر
هل ستأتي الفكرةُ أم عليّ أن أدفع غرامةً
لأفكّ أسرها؟
بابي تركَ نفسَه مفتوحًا
وراح يتفرّجُ عليها
هذه الخسارات التي تزحفُ تحت رجليه
ستصلُني وتميتُني ميتةَ كلبة
لن يعثر عليّ أفرادُ عائلتي
فلقد حُفرتْ قبورُهم وسيقفزون فيها قبل أن يَسمعوا حشرجةَ روحي
كنت أغسلُ جثّةَ جدّتي من الأخطاء
فانزلقتْ ولحقتْ بهم
وصارت الأخطاءُ صمغًا على جلدي
نسيتُ كيف على الكلمات أن تلحق بعضها
وراحت أفكاري تتوه في قيعان القبور
جنيّةً برأسين
كلُّ رأسٍ يلتفتُ إلى جهة
وأنا الجهةُ التاسعة
أناديها فيصطدمُ الوجهان ويموتان
رحمةُ الله عليك أيّتها الأفكارُ العجوز
أيّهما أرحم، أن تصلبكِ جرّافةٌ إسرائيليّة أم رائحةُ الهَرَمِ في سريركِ؟
لن تعثر عليّ سيّارةُ الإسعاف
فقد جُنّت بعد أن غرقَ اسمُ حيفا في بحرها
وقفز جبلُها من قمّته
جيّد... هكذا لن يكتب الشعراءُ بعدُ عنهما
ما اسمُ هذه المدينةِ التي تتنصّتُ من الأبواب المواربة؟
كم كان سيكونُ ممتعًا لو شاركتُ في النميمة
عن شكل موتي
كنتُ سأضيف:
رماها الموتُ فوق هذه القصيدة
ماتت قبل أن تتذكّر كيف يُكتب الشعرُ
وكيف تتضاجعُ العصافيرُ
وكيف توقّف قلبُ أبيها
وكيف تقصُّ الحكمةُ أجنحة الأمل
لكنّ أسرابًا منه كانت تطير من فمها وأذنيها وثقوبها الحسّاسة
كانت تطيرُ فوق الباب الصّافنِ وسيّاراتِ الإسعاف
ثم تنبطح تحت جرّافةٍ جائعة
بالمناسبة، أفكاري ماتت من الجوع
وستتذكّرُ في حياتها القادمة في رأس شاعرةٍ شابّة
بأنّ الأخطاء ستلتصقُ بكفّيها إلى الأبد
ولن يزيلُها ربٌّ أو شيطان
من مات من عائلته أحدٌ
فليدعوني إلى حفلةِ الصمغِ الصاخبة
بينما يموتُ الناسُ وتموتُ المدينةُ في الخارج
يُقفِل الباب نفسَه
أفركُ رأسَ الحياةِ بالشامبو
أفركُ للمرّة الأخيرة
أفركُ
فيما هي تنظرُ في عينيّ المطفأتين.
■■■
عربات.. عربات.. عربات
نتذكّر شيئًا... فتسير عربةٌ محمّلةٌ من قاع الجبل إلى قمّته
عرباتٌ ثقيلة وأُخرى خفيفة تجرّ بنفسها من قعر الذاكرة،
مقطوعةَ الأنفاس، من أجلنا
الطبيبُ الذي تفحّصني قال بأنّ الحالةَ مزمنة، وبأنّ طرقاتي ضيّقةٌ ومنحدرة، وعلى المسافرين أن ينزلوا من العربات حتّى يكملوا الطريق. ينزل الأصدقاء، كلّما هاتفوني أو لوّحوا لي من بعيد، وأنا لا أعرف من هم. ولا تذكّرني وجوههم بشيء سوى بالشّكل العامّ الذي اختير لوجه البشريّة. اليومُ الذي وقعت فيه في الحبّ وذاك الذي مات فيه أبي يشدّان قوائمهما إلى أعلى، أسماء المدن التي عشتُ فيها شبابي تتسلّق مثل مهرّجٍ عجوز، العطورُ القديمةُ اختارتْ أن تزحفَ على بطونها لئلا تفقدَ رائحتها.
كلّ يوم كانوا يسيرون حتّى منتصف الطريق
ثمّ يختفون بطرق عجيبة
مرّةً ذابوا وصاروا سيلاً أغرق الحقول المجاورة
ثمّ صاروا طبقاتٍ فوق الصخور
ولم يكتشفها البترولوجيّون
الجبلُ أصبح أملسًا لا طرقات فيه
والعرباتُ تجرُّ ذكرياتِ امرأةٍ أخرى
في جبالٍ بعيدة
أسافرُ كلّ صباح إليها
كي أسألها إن كانت تذكر اسمي
قبل أن يصير صخرة.
■■■
فهمنا كلّ شيء
انتهى الأمر وخرجت من جسدي
ثمّ لتسع سنواتٍ
سكنت جذع زيتونة
الناس الذين رأيتهم في صور المجازر
خرجوا أفواجًا من أجسادهم
كذلك أبي وجدّتي وابنة أختي.. جميعهم خرجوا مثلي
نحن الآن قبيلةٌ واحدة
اتفقنا على أنّنا فهمنا كلّ شيء
الحيوانات المفترسة التي عاشت في صدورنا
وتظاهرنا بأنّها مثلٌ في الوداعة
أصابعنا التي فقأنا بها عيوننا حين وقعنا في الحبّ
والشّلل الذي أصابنا حين وقعنا في الوحدة
أمنياتنا التي يبّسناها تحت شمس الريبة
نار الخوف التي أطعمناها أمنياتنا اليابسة
فهمنا كلّ هذا
لقد دمّرنا حياتنا بأيدينا حتّى وصلنا إلى هنا
هنا التي، وسط هرطقةٍ عنيفة، سمّيت "الآخرة"
فجذع الزيتونة هذا أكثر دفئًا من رحم أمّي
والفراغ اللانهائيّ هنا أقلُّ وحشةً من غرفتي في شارع الكرمة في حيفا
لقد فهمنا كلّ شيء
إنّها البداية وما كان قبلها كان كابوسًا شنيعًا
ومطبعة عملاقة من كتب التنمية البشريّة
بينما لم تنمُ فينا غير أشجارٍ من الرّعب
تروح جذورها تمتدّ وتفسّخ حياتنا
لم ينمُ فينا سوى حدادنا على أحبّتنا
وعقاب المدرّسين الذي تبيّن أنّ مفعوله ظلّ يسري معنا إلى القبر
هي لحظةٌ
وستمرُّ بعدها الحافلات
الحافلات الشَرِهةُ
تلك
وتُعيدنا إلى حيث أتينا.
* شاعرة من فلسطين