تلتصق آمال بالسياج الخارجي، تمسكُ القضبانَ الحديدية وتحرّكُ رأسها قليلاً، تصوِّبُ نظراتِها إلى داخل المبنى الضخم، تبحثُ بين الناس المتجمعين عن النساء اللواتي يحملنَ أطفالاً، تبحثُ عن نفسها، عن تلك المرأة اللبنانية الهاربة التي كانتْها قبل ثلاثة وثلاثين عاماً.
مساءَ البارحة أخبرتْها جارتُها الألمانية أنهم جاؤوا بلاجئين سوريين إلى مركزِ إيواءٍ في البلدة المجاورة. ومنذ سماعها لهذا الخبر الذي أصبح عادياً، هاجمتْها الذكريات القديمة والمؤلمة، وخطفتْها إلى الخلف في رحلةٍ استعادية مُفاجِئة. كانت عروساً عشرينية تحملُ ابنتَها الرضيعة المريضة عندما أخبرَها زوجُها أنه اتخذَ قراره، سيخرج ليقاتل "أعداء الله والوطن". صفق بابَ البيت وراءَه، وصفقَ في وجه آمال باب الحياة والزواج والاستقرار إلى الأبد. انتظرتْهُ تسعة أشهر، لم يعد ولم يرسل خبراً.
كان الوضع في بيروت يزدادُ خطورةً كلّ يوم، حروبٌ صغيرة وكبيرة تشتعلُ وتخمد، فصائل متقاتلة تنشطر وأحزاب وأطراف تتكاثر، سياسيون يعلّقون ويحلّلون. بينما الجيش الإسرائيلي يحاصر بيروت.. الجيش الإسرائيلي يقتحم بيروت.. الجيش الإسرائيلي في قلب بيروت.
لم تكن مجرّدَ إشاعاتٍ وأقاويل؛ أساسياتُ الحياة باتت مفقودة، والخبز اليومي عصيٌّ على التحصيل. أما تأمين الدواء لابنتها، فكان هاجسها الأصعب لشدّة ما تاهتْ بين الأطباء، ولكثرة ما تقاذفتها المشافي ومراكز العلاج بحجّة غموض الحالة وظروف الحرب.
اتخذتْ قرارها؛ ستسافر. ماذا تفعلُ هنا؟ عودةُ زوجها لا رجاءَ منها، كانتظار نزول المحكوم بالموت عن عمود مشنقته. شفاء ابنتها لن يتحقّق مالم ترحل بها إلى بلدٍ يعتني بالحياة بدل الاحتفاء اليومي هنا بكل أنواع الموت. أما انتظارُ انتهاءِ الحرب فمُقامرة لن تقدمَ عليها، وتدفع لقاءها عمرَها وحياة ابنتها.
اهتدت آمال إلى طريقةِ للهربٍ من بيروت، اختارتْ ألمانيا، واتفقتْ مع السماسرة. لم يكن الطريقُ سهلاً أو سريعاً كما كذبوا عليها عندما دفعتْ لهم. لكنّ عذابَ الطريق وقلقه وقسوتَه سرعان ما اختفوا من ذاكرة آمال ليحلّ محلّهم كابوسٌ جديد كان ينتظرها في بلد اللجوء، فابنتها كانت مصابةً بالسرطان. تشخيص الطبيب واضحٌ ونهائي ولا وقتَ لديها للتصديق أو الإنكار. ابنتها مريضة، وهي هنا أمها وأبوها، المسؤولة والمُقَرِّرة والمبادِرة والمُتصَرِّفة، وهي هنا أيضاً الوحيدة والضعيفة والتائهة والغريبة واللاجئة.
أصعبُ أيّام غربتها وأوحشها هي أيامُها الأولى مع ابنتها في المشفى. كانت تريدُ أن تشرحَ للفريق الطبي المختص بدايات المرض، وأن تزوّدهم بأعراضه، أن تروي لهم معاناة الطفلة وأن تصف بدقة شكل وحجم آلامها... أيّ شيء قد يفيدهم في العلاج. ومَن غيرها يقدر على نقل تفاصيل حالة ابنتها بأمانة وحبّ وأمل وإخلاص! لكن كيف تحكي لهم؟ بأية لغة؟ كيف تترجم هذا الصراخ والحريق الداخلي؟ كلماتها الإنجليزية القليلة لا تكفي، وكلماتها العربية تتشظى في حلقها وتخرج إلى الهواء بلا أي معنى أو أثر. أمّا المترجم الذي جاءتْ به المشفى، فكان يزيدُ من غليان قلبها ببروده وحيادية تعابيره.
كانت آمال قد اعتذرتْ عن الالتحاق بمدرسة اللغة وقُبِلَ طلبُها بسبب وضعها الخاص كراعية عازبة لطفلة مريضة، ولم يبقَ أمامها سوى المواجهة المنفردة. اشترتْ قاموساً (عربي- ألماني) وراحتْ تستخرجُ ما يلزمُها من كلمات لتقهر بها خرسها وعجزها، وقبل كل شيء لتشفي ابنتها. أول ما تعلمته آمال في اللغة الألمانية هو المصطلحات والتعابير الطبية. تنام وتصحو وتأكل وتستحم دامعة العينين وهي تردّد في عقلها:
ieren, niere, niere كلية، كلية، كلية...
magen, magen, magen معدة، معدة، معدة...
تحاول الآن أن تُتَرجمَ تلك الكلمات بالاتجاه المعاكس، تتلكّأ قليلاً قبل أن تتذكّرَ معنى كلمة rachen بالعربية، ربما كانت المريء أو البلعوم، لم تعد تذكر.
تبتسم آمال لهذه المفارقة وتضحك، تضحك كثيراً وتطرد تلك الذكريات وتلوم نفسها على نبشها وحكّ جراحها. لن تعود إليها ولن تستفزَّ الآلامَ التي نامتْ. لم تنجُ إلا بإصرارها وصبرها، خرجتْ من خنادق الحرب وسراديب الغربة، قفزتْ فوقَ حُفَر البدايات، وصلتْ إلى الطريق المُنبَسِط وارتاحتْ. وابنتها اليوم صارت صبية جميلة سليمة ومعافاة، تعملُ وتسافر في الإجازات وتُنَزِّه كلبها العسلي الصغير. لا تتمايز كثيراً عن أبناء جيلها من الألمان وإن كانت لا تزال تستمع إلى فيروز وتراتيل وديع الصافي في المساءات الماطرة، وتحملُ كأمّها عينين لبنانيتين واسعتين.
تتململُ آمال في وقفتها أمام سور مركز اللجوء، تلمحُ امرأةً في حضنها طفلٌ صغير، تناديها:
"هيه، أنتِ.. أم الجاكيت البني.. اقتربي".
ترفع المرأة رأسها باتجاه الصوت، تلتفتُ حولَها قليلاً ثم تنهض وتمشي بسرعة نحو آمال وتسألها بلهفة:
"أنتِ سورية؟ بتحكي عربي؟"
تبتسم آمال بطريقة تحاول فيها أن تُطمئِن المرأة التي بدتْ عن قرب عشرينية وأن الولد الذي بين يديها طفلة:
"أنا لبنانية، وبحكي عربي طبعاً. بيلزمك شي؟ بقدر ساعدك بشي؟"
نزع سؤالُ آمال عن فم المرأة كمّامةً عمرها سنوات، فراحت تحكي وتبكي وكأنها تخاطبُ العالم من خلال امرأة واحدة:
"أنا سوريّة، من الرقّة، أنا وحيدة ولا أعرفُ أحداً هنا، زوجي اختفى قبل سفري بعام، أقنعه أولاد عمه بأنهم يجب أن يخرجوا و"يقاتلوا الكفّار" فذهبَ معهم ولم يعد، سافرتُ إلى تركيا وأرشدني مسافرون آخرون إلى طريقة تهريب مضمونة الوصول كوني أحملُ طفلة، وصلتُ بعد أسبوعين، أنا بخير ولستُ متعبة، ما يهمّني الآن هو ابنتي، فهمتُ من أحد المسؤولين أنه سيكون عليّ بعد فترة الالتحاق بمدرسة لتعلّم اللغة الألمانية، أريدُ ذلك لكنني لا أستطيع، لا أستطيع تركَ ابنتي فهي مريضة، مريضة جداً ولا يمكن لأحد غيري أن يعتني بها ويفهم حاجاتها، ثم إنّ الـ ...
قاطعتْها آمال بحركةٍ من يدها، وفي لحظة واحدة عصفتْ في رأسها وذاكرتها كل آلام السنوات الماضية، اجتمعَ دمعُ العمر في عينيها، وحلّ تعبُ المشوار الطويل في كلّ خلايا جسدها. تماسكتْ، نظرتْ إلى الشابة الباكية وسألتْها وفي قلبها الجواب اليقين:
"ما اسمكِ؟".
أجابتْ الشابة: "آمال.. اسمي آمال".
* كاتبة من سورية
اقرأ أيضاً: لا أرى بحر زكريا