استقالة حكومة الفخفاخ... أسبابها وتداعياتها على المشهد السياسي في تونس

20 يوليو 2020

الرئيس التونسي والفخفاخ والحكومة أمام قصر قرطاج (27/2/2020/الأناضول)

+ الخط -

قدّم رئيس الوزراء التونسي، إلياس الفخفاخ، استقالة حكومته إلى الرئيس قيس سعيد، يوم 15 تموز/ يوليو 2020، بعد خمسة أشهر من نيل حكومته ثقة البرلمان. وتتزامن استقالة الفخفاخ مع تصاعد حدّة التجاذبات السياسية التي تشهدها البلاد، على خلفية الاتهامات الموجّهة إليه بالتورّط في ملفات فساد، وعدم تجانس الفريق الحكومي، وتشظّي المشهد البرلماني، وانخراط الرئيس سعيّد في صراعات النخبة السياسية التونسية، حكمًا ومعارضة؛ ما أدخل البلاد في أزمة سياسية عميقة.

مسار التشكيل الصعب
لم يكن مسار تشكيل حكومة تونسية جديدة، في ضوء نتائج انتخابات 2019، يسيرًا، فقد أسفرت الانتخابات عن مشهد برلماني، مكون من عدد كبير من الكتل الكبيرة التي لا يشكل أي منها أغلبية، والمتوسطة، والصغيرة المتنافرة؛ وذلك بفعل القانون الانتخابي القائم على آلية "التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا"، وبفعل عدم المسؤولية التي أبدتها، وما زالت تبديها، بعض الأحزاب تجاه العملية الديمقراطية، وتنقّل النواب بين الأحزاب تبعًا للمصلحة الشخصية، وعلى الرغم من تصدّر حركة النهضة قائمة الفائزين، فإن ما حصلت عليه من مقاعد (54 مقعدًا) لم يؤهلها للمضي في تشكيل الحكومة منفردة، وضمان الحصول على ثقة البرلمان (109 أصوات). وكان سقوط حكومة المكلف الأول، الحبيب الجملي، في نيل ثقة البرلمان، بعد مشاورات دامت شهرين، مؤشّرًا واضحًا على عمق الخلافات بين مختلف الكتل، وعلى صعوبة جمع الأغلبية ضمن ائتلاف حكومي متجانس، قادر على التصدّي للأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها البلاد.


إثر فشل الجملي في نيل ثقة البرلمان، والذي اقترحته حركة النهضة، بصفتها الحزب الحاصل على المرتبة الأولى في الانتخابات، كلّف الرئيس سعيد، في 20 كانون الثاني/ يناير 2019، القيادي في حزب التكتل الديمقراطي والوزير السابق، إلياس الفخفاخ، بتشكيل الحكومة. وعلى الرغم من أن المشاورات التي أجراها الفخفاخ لم تستغرق حيزًا زمنيًا طويلًا، مقارنةً بما حصل مع الجملي، فقد شابتها تجاذباتٌ عديدةٌ كادت تعصف بها وتعيدها إلى المربع الأول. ومثّل الخلاف الذي حصل، منذ بداية المشاورات، بين الفخفاخ وحركة النهضة، بخصوص رؤية كل منهما لبنية الائتلاف الحكومي، أول العقبات التي اعترضت سبيله. ففي حين دعت الحركة إلى تشكيل ائتلاف واسع يضم حزب قلب تونس، الحائز على المرتبة الثانية في الانتخابات البرلمانية، أصرّ الفخفاخ على الاقتصار على الأحزاب التي دعمت الرئيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، أواخر 2019، واستثناء حزب قلب تونس، وائتلاف الكرامة، والحزب الدستوري الحر. وفي الآن نفسه، فرضت أحزاب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وتحيا تونس على الفخفاخ جملةً من الشروط للمشاركة في الائتلاف الحكومي؛ تعلق أغلبها بالاعتراض على منح حركة النهضة حقائب وزارية سيادية، مع أنها الحزب صاحب التمثيل البرلماني الأكبر من بينها.

كان سقوط حكومة المكلف الأول، الحبيب الجملي، في نيل ثقة البرلمان، بعد مشاورات دامت شهرين، مؤشّرا على عمق الخلافات بين مختلف الكتل

تمكّن الفخفاخ، بعد مشاورات عسيرة، من تشكيل فريق حكومي من 30 وزيرًا؛ نصفهم من مرشحي الأحزاب، ونصفهم الثاني من المستقلين. وعُدّت حكومة الفخفاخ الائتلاف الأوسع منذ الثورة لناحية عدد الاحزاب، حيث شملت حركة النهضة، والتيار الديمقراطي، وحركة الشعب، وحركة تحيا تونس، وكتلة الإصلاح الوطني، وتميزت بمشاركة شخصيات سياسية وحزبية من الصف الأول؛ على غرار وزير الصحة عبد اللطيف المكّي، والوزير المكلف بالوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد، محمد عبّو، والوزير المكلف بحقوق الإنسان، العياشي الهمامي. وبالتوازي مع مسار التشكيل الحكومي، تبلورت تفاهمات برلمانية مختلفة كليًا عن المشهد الحكومي الذي أفرزته مشاورات الفخفاخ. ففي مفارقة سياسية، صوّت كل من حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، اللذين استُبعدا من الائتلاف الحكومي، لصالح مرشح حركة النهضة لرئاسة البرلمان، راشد الغنوشي، في حين صوّتت ضده الكتل المؤتلفة مع حزبه في الحكومة. وما زالت هذه الأحزاب الشريكة في الحكومة ترى أن "النهضة" يجب أن تكون في المعارضة، مع أنها الأحزاب الأصغر. وأدّت هذه المفارقة إلى تبلور مشهد سياسي موسوم بالتنافر بين ائتلاف حكومي تقابله تفاهماتٌ برلمانية مختلفة؛ ما أدّى إلى عجز الحكومة، في أكثر من مناسبة، عن تمرير مشاريع القوانين التي تقدّمت بها؛ لافتقارها إلى سند برلماني قوي.

 قدّرت هيئة مكافحة الفساد مكاسب الفخفاخ بنحو 15.6 مليون دولار ما شكل ورقة ضغط قوية بيد حركة النهضة ضد الفخفاخ

في الوقت نفسه، أشغلت بعض القوى السياسية، مثل كتلة الحزب الدستوري المؤيدة علنًا للنظام الدكتاتوري السابق والمعارضة للثورة، البرلمانَ بلوائح سياسية ونشاطات استعراضية لا قيمة عملية لها، ولكنها تعطّل عمل البرلمان، وتظهره في حالة من الفوضى، بغرض الإساءة إلى صورته، وهو ما تتوفر لدى جميع برلمانات الدول الديمقراطية آليات لمنعه.


"تضارب المصالح"
كان واضحًا، منذ البداية، أن الائتلاف المكون للحكومة يفتقد الانسجام المطلوب للتصدّي للأزمات المتعدّدة التي تمر بها البلاد، ويحول دون تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي وعد بها الفخفاخ التونسيين، في برنامجه المعلن في جلسة منح الثقة. وعلى الرغم من أن جائحة كورونا سمحت بهدنةٍ غير معلنة بين فرقاء الائتلاف الحكومي، ظلت عوامل التنافر قائمة، وعادت إلى التصاعد، بحدّة، خلال الشهرين الأخيرين، فقد أصرّت حركة النهضة على مطلبها توسيع الائتلاف الحكومي، وضم حزب قلب تونس إليه، بينما ظلت أحزاب التيار الديمقراطي وحركة الشعب وحركة تحيا تونس تذكّر بتناقضاتها مع حركة النهضة؛ وهي التناقضات التي ترجمت، في أكثر من مناسبة، في إسقاط مشاريع قوانين تقدّمت بها الحكومة نفسها. وبمرور مئة يوم على نيلها ثقة البرلمان، تزايدت المؤشّرات على أن عمر الحكومة لن يكون طويلًا، على الرغم من النجاح النسبي الذي حققته في تصدّيها لجائحة كورونا، واحتواء تداعياتها الصحية والاجتماعية والاقتصادية.

 تفجّر ملف تضارب المصالح في وجه الفخفاخ، وما تبعه من مبادرات وردود أفعال كان ضربة أنهت كل مسعىً لترميم الائتلاف الحكومي

مع ذلك، لم تدفع التجاذبات داخل حكومة الفخفاخ، على حدّتها، أيًا من مكوناتها لإعلان انسحابه منها أو للمطالبة باستقالتها، إلى حين تسرّب تفاصيل ما بات يعرف بقضية "تضارب المصالح". ففي 29 يونيو/ حزيران 2020، كشف رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (هيئة دستورية مستقلة)، شوقي الطبيب، النقاب عن وجود "شبهة تضارب مصالح لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، لامتلاكه أسهمًا في شركاتٍ تتعامل مع الدولة تجاريًا؛ وهو ما يحظره القانون"، مؤكّدًا أن القضية أثيرت بناء على إشعار ورد إلى الهيئة، ويشتبه بالفخفاخ بالفساد واستغلال المعلومات للإثراء غير المشروع. وحال الكشف عنها، أحدثت القضية هزّة داخل الائتلاف الحاكم والكتل البرلمانية، فقد سارعت حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة إلى المطالبة بالتحقيق في ما ورد على لسان رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، داعية الفخفاخ إلى الاستقالة في حال ثبوت إدانته، بينما راوحت مواقف التيار الديمقراطي وحركة الشعب وحركة تحيا تونس بين الدفاع الضمني عن رئيس الحكومة، والقبول بالتحقيق في الاتهامات الموجهة إليه. وعلى الرغم من الاختلافات بين مكونات الائتلاف الحكومي والكتل البرلمانية، بخصوص مواقفها من قضية تضارب المصالح، فقد تم التوافق على تشكيل لجنة تحقيق برلمانية ترأسها المعارضة (حزب قلب تونس) ولجنة تحقيق إدارية، وطلب منهما تقديم تقريرين إلى الحكومة والبرلمان، بعد التحرّي في أمر الشبهات التي تحوم حول رئيس الحكومة.


مثّلت القضية، التي قدّرت هيئة مكافحة الفساد مكاسب الفخفاخ منها بأكثر من 44 مليون دينار (قرابة 15.6 مليون دولار أميركي)، ورقة ضغط قوية بيد حركة النهضة، ومعها حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، للمضي في خيار إسقاط الفخفاخ وائتلافه، وتشكيل مشهد حكومي جديد؛ فقد سارع مجلس شورى حركة النهضة إلى تكليف رئيس الحركة الغنوشي بـ "بإجراء مشاورات مع رئيس الجمهورية والأحزاب والمنظمات للاتفاق على مشهد حكومي بديل".


استقالة وإقالات
حال صدور قرار مجلس شورى حركة النهضة الداعي إلى البحث عن بديل حكومي جديد، أكّد الرئيس سعيد، بحضور الفخفاخ، والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، أنه "لن يقبل بأي مشاوراتٍ تهم تشكيل حكومة جديدة، ما دامت الحكومة الحالية قائمة، وكاملة الصلاحيات"، وذكّر بأن "المشاورات لا يمكن أن تحصل إلا إذا قدّم رئيس الحكومة استقالته، أو سحبت منه الأغلبية المطلقة بمجلس نواب الشعب الثقة". وعلى الرغم من أن موقف الرئيس سعيّد بدا مستندًا إلى مقتضيات الدستور، فإن في النبرة التي تحدّث بها مؤشرًا على أنه منحاز إلى الفخفاخ، وأن العلاقة بين الرئيس وحركة النهضة ليست على ما يرام، وأن لكل منهما رؤيته المختلفة للمخارج الممكنة من المأزق السياسي الذي تمر به البلاد.

لم تدفع التجاذبات داخل حكومة الفخفاخ، على حدّتها، أيًا من مكوناتها، لإعلان انسحابه منها أو للمطالبة باستقالتها، إلى حين تسرّب تفاصيل قضية "تضارب المصالح"

وبالتزامن مع الخلاف بين الرئيس وحركة النهضة حول مصير حكومة الفخفاخ، اندلعت بين الكتل البرلمانية حرب لوائح، على علاقة بالاصطفافات التي أفرزتها المواقف من قضية "تضارب المصالح"، فقد وقّع 73 نائبًا من الكتل المكونة من حركة الشعب والتيار الديمقراطي والإصلاح وتحيا تونس وبعض المستقلين، وهم الحزام البرلماني الداعم للفخفاخ، عريضة لسحب الثقة من رئيس البرلمان الغنوشي، بينما قدّم 105 نواب، معظمهم من حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، لائحة لسحب الثقة من حكومة الفخفاخ. وبدا، من معطيات حسابية وسياسية، أن لائحة سحب الثقة من حكومة الفخفاخ تحوز حظوطًا أكبر من لائحة سحب الثقة من الغنوشي، في حال مرورهما إلى الجلسة البرلمانية العامة. وفي ما يبدو استباقًا لإمكانية تحوّل لائحة سحب الثقة من الفخفاخ إلى أمر واقع، يضيف نقاطًا إلى رصيد النهضة ويسحب المبادرة من الرئيس، دعا سعيد، في 16 من تموز/ يوليو 2020، الغنوشي والفخفاخ والطبوبي، إلى قصر قرطاج، وأعلن تلقيه استقالة الفخفاخ من رئاسة الحكومة، والشروع في مشاوراتٍ مع الكتل والائتلافات والأحزاب لتسمية رئيس حكومة جديد.

اندلع جدل دستوري حول التعامل مع المشهد الجديد، بخصوص أسبقية لائحة سحب الثقة من الفخفاخ عن إعلان الاستقالة، وما إذا كانت الأولى تلغي الثانية

لم تكن استقالة الفخفاخ نقطة النهاية للتجاذبات وردود الأفعال بين مختلف الفرقاء؛ فقد اندلع جدل دستوري حول التعامل مع المشهد الجديد، بخصوص أسبقية لائحة سحب الثقة من الفخفاخ عن إعلان الاستقالة، وما إذا كانت الأولى تلغي الثانية، وما يتبعها من مقتضيات دستورية تمنح الحزب الأول (حركة النهضة) حق تسمية رئيس الحكومة الجديد في حال سحب الثقة، بينما يؤول هذا الحق إلى رئيس الجمهورية في حال الاستقالة. وفي سياق ارتدادات الاستقالة، عمد الفخفاخ إلى إعفاء جميع وزراء حركة النهضة من مهماتهم؛ ما فتح الباب أمام جدلٍ جديد بشأن مدى دستورية إقالة وزراء هم أعضاء في حكومة مستقيلة، تقتصر مهماتها على تصريف الأعمال، وحول وصول التجاذبات السياسية إلى مستويات من شأنها التأثير، سلبيًا، في سير المصلحة العامة، في وقتٍ ما زالت البلاد لم تتخلص، نهائيًا، من مخاطر جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية.
خاتمة
باستقالة رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ، يسدل الستار على تجربة ائتلافية هي الأوسع والأقصر عمرًا منذ عام 2011، ويفتح المشهد على تجربةٍ جديدةٍ لم تتضح معالمها بعد، غير أنها لن تكون، في كل الأحوال، استنساخًا لائتلاف الفخفاخ. وعلى الرغم من أن التجاذبات التي وسمت علاقة الأطراف المشاركة في الائتلاف، وتشكّل تحالفات برلمانية مختلفة، حدّت من فاعلية الأداء الحكومي، ومنعت تمرير جملة من مشاريع القوانين، فإن تفجّر ملف تضارب المصالح في وجه الفخفاخ، وما تبعه من مبادرات وردود أفعال، كان الضربة القاصمة التي أنهت كل مسعىً لترميم الائتلاف وإطالة عمره. وبتجمّع المؤشرات على جدية الاتهامات الموجهة إلى الفخفاخ، بما يجعلها ملفًا قضائيًا، في الأيام المقبلة، يتوجه الاهتمام إلى قصر قرطاج لكشف الشخصية التي سيكلفها الرئيس قيس سعيّد بتشكيل الفريق الحكومي الجديد. ولكن مشكلة النظام الديمقراطي التونسي لن تحلّ، إذا لم يبد الفاعلون السياسيون، ولا سيما الأحزاب الملتزمة بهذا النظام، مسؤولية أكبر تتمثل في رفع مهمة ترسيخ النظام الديمقراطي فوق الخصومات والمناكفات الحزبية، وإذا لم يتم التصدّي سوية للشعبوية وللقوى التي تسعى للمس بالديمقراطية.