استقالات السياسيين التونسيين: ثمن للحسابات الخاطئة

05 ديسمبر 2019
غيّرت الانتخابات الأخيرة معادلات عدة (الشاذلي بن ابراهيم/Getty)
+ الخط -
أعلن العديد من السياسيين، الذين تصدّروا الصف الأمامي في زمن ما بعد الثورة التونسية، انسحابهم او استقالتهم من القيادة داخل أحزابهم أو حتى من الشأن العام. ولّدت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة (جرت الجولة الأولى في 15 سبتمبر/أيلول والثانية في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضيين) وبدرجة أقل الانتخابات البرلمانية (6 أكتوبر الماضي) إحساساً قوياً لدى الكثيرين من هؤلاء، بأن مسيرتهم قد بلغت مداها ولم تعد لديهم القدرة على كسب ثقة المواطنين، ففضّل بعضهم مغادرة الحلبة، ومنهم من أدرك أن دخوله في الصراع السياسي الذي ميّز السنوات الأخيرة كان خطأ أو في حاجة إلى مراجعة.
آخر هذه الشخصيات هو الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي. الطبيب الذي انتقل من الطب إلى حركة حقوق الإنسان، ومن خلالها قرر مواجهة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي خلال سنوات الاستبداد، مقتنعاً بضرورة تأسيس حزب. وبعد الثورة احتل حزبه "المؤتمر من أجل الجمهورية" المرتبة الثانية في انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011، ثم اختارته أحزاب الترويكا (حركة النهضة، المؤتمر من أجل الجمهورية، التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات) رئيساً مؤقتاً للبلاد في 13 ديسمبر/كانون الأول 2011.

كانت تلك التجربة مثار جدل عاصف. وعندما حان موعد الانتخابات الرئاسية 2014 خاضها المرزوقي بثقة عالية، بعد أن ساندته قواعد حركة النهضة، لكنه خسر المعركة ضد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بفارق بسيط. ونظراً للحصيلة الهزيلة للسنوات الخمس الأخيرة، رفض المرزوقي التنازل في الرئاسيات الأخيرة في سبتمبر الماضي، لصالح مرشح النهضة عبد الفتاح مورو اعتقاداً منه بكونه سيفوز على الجميع، غير أن المفاجأة كانت قاسية بالنسبة إليه ولم يتجاوز رصيده 2.97 في المائة، فأعلن بشجاعة أنه "يتحمل كامل المسؤولية"، وقرر "الاستقالة من رئاسة حزب الإرادة والانسحاب من الحياة السياسية" بعمر 74 عاماً.

الشخصية الثانية التي لم يكن مصيرها السياسي مختلفاً هي أحمد نجيب الشابي. الرجل الذي عارض كلا من الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وبن علي. وكان على يقين بأنه سيتصدر المشهد بعد الثورة، لكن مع كل خطوة يخطوها نحو الهدف كانت تأتي النتائج مخالفة تماماً لتوقعاته. استقال من حزبه ظناً منه أن القرار سيحرره من القيود الحزبية التي تقيد حركته، ودخل في تجربة جديدة جمع فيها عدداً من الكوادر السابقة للدولة التونسية، وظن أن ذلك كفيل بإقناع التونسيين بأن الكفاءة يجب أن تقدم على الأيديولوجيا. لم تنجح المبادرة، وعندما اقتربت لحظة الانتخابات الرئاسية صدمه الواقع الأليم عندما لم يتمكن من جمع التواقيع الضرورية لقبول ترشحه، مما حال دون خوض آخر محاولة خروجه من الباب الكبير. الشابي يعمل حالياً على إعداد مذكراته.



من جهته، يعتبر ياسين إبراهيم من السياسيين الجدد الذين بدأ عهدهم بعد الثورة. لا ماضٍ سياسيا له ولا نشاط مدنيا مناهضا للسلطة. كان متفوقاً في دراسته، وتخرج من أحد المعاهد العليا في فرنسا، وعمل بمؤسسات معروفة في عالم الأعمال، وأسس شركته الخاصة قبل أن يعود إلى تونس ويصبح وزيراً للنقل ثم التجهيز. أسس ياسين حزب "آفاق تونس"، الذي تحوّل إلى رقم هام على الخارطة الحزبية. لكن سرعان ما استنزفته الخلافات الداخلية، وعمل على أن يكون طرفاً فاعلاً في مقاومة حركة النهضة والتخفيف من حجمها، إلا أن الانتخابات زادت من عزلة حزبه وهمّشت دوره. وبعد الهزيمة التي مني بها حزبه قرر الاستقالة، معلناً أن ذلك يعود إلى "عدم النجاح في تحقيق أهداف الحزب في هذه المرحلة"، وذلك بسبب "بعض الخيارات السياسية". ونظراً لصغر سنه وحماسته، وعد بالقيام بالمراجعات الضرورية التي تسمح للحزب بتحقيق تقدم فعلي.

مهدي جمعة، شخصية أخرى قذفت بها الأحداث نحو الحلبة ليجد نفسه رئيساً للحكومة في توقيت قياسي وصعب. جمعة كان من التكنوقراطيين (اختصاصيين) الذين عادوا إلى تونس بعد الثورة، اعتقاداً منهم بأن البلاد تحتاج إلى أبنائها لمواجهة تحديات الانتقال الديمقراطي. وعندما انفجرت الأزمة السياسية خلال سنة 2013، وكادت تونس أن تنزلق نحو الحرب الأهلية، تشكل ما سمي بالرباعي الذي جمع الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان واتحاد المحامين. في هذا السياق الملتهب قفز اسم جمعة، وتمّ التوافق حوله ليتولى رئاسة الحكومة لتسعة أشهر انتهت بتنظيم انتخابات 2014.

بعد تلك التجربة الهامة قرر جمعة تأسيس حزب "البديل التونسي" خلال سنة 2017، وظنّ أن الطريق معبّدة أمامه ليصبح رئيساً للجمهورية، غير أن نتائج الانتخابات عصفت به، وجعلته يحتل المرتبة الـ12 بين المرشحين. أما في الانتخابات التشريعية فقد حصل حزبه على ثلاثة مقاعد فقط. وعلى الرغم من أن هذه الحصيلة تعتبر ضعيفة مقارنة بالجبهة الشعبية التي كانت تمثل اليسار التونسي لمناضليها ولها تاريخ يمتد إلى ما قبل ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن رصيدها لم يتجاوز مقعداً واحداً بعد أن كانت تملك في البرلمان السابق كتلة هامة ونشيطة.

هذه ليست سوى عيّنات من السياسيين، القدامى منهم أو الذين صعدوا مع الثورة وظنوا أن العمل السياسي والحزبي قادر على تغيير موازين القوى، فصعّدوا من سقف توقعاتهم حتى انهار معظمها في لحظة من الزمن. تتغير القيادات السياسية حالياً في تونس بنسق سريع بحكم التحولات الجارية. وجوه تختفي أو تتراجع، وأخرى قد تكون بلا تاريخ لكنها تصعد بشكل سريع، وأحياناً من دون مقدمات. من المتوقع أن يستمر هذا النسق حتى يدرك العاملون في الحقل السياسي، أن الارتباط الوثيق بالمواطنين وكسب ثقتهم وتجنب المناورة معهم هو المصعد الحقيقي للقيادة في بلد لا يزال في حالة انتقال ديمقراطي هش.