جاء تحديد 14 مايو/أيار المقبل، وهو المرتبط بالنكبة الفلسطينية بإعلان إنشاء إسرائيل، كموعد لتطبيق قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة أسرع بكثير مما كان متوقعاً. ويعزى حماس ترامب لتطبيق قراره بهذه السرعة إلى رغبته في استرضاء قاعدته الانتخابية، التي يشكل المؤيدون لإسرائيل نواتها الصلبة، ولتوثيق دعائم ارتباطه بالأغلبية الجمهورية في الكونغرس، خصوصاً في ظل الهجمة التي يتعرض لها من قبل الديمقراطيين ووسائل الإعلام بسبب كيفية تعاطيه مع الشبهات حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ومما لا شك فيه أن محدودية ردة الفعل، الجماهيرية والرسمية العربية والإسلامية والفلسطينية، على قرار الاعتراف بالقدس "عاصمة" لإسرائيل ونقل السفارة، أقنع ترامب بأنه يمكن تطبيق القرار من دون أن تسفر هذه الخطوة عن تهديد جدي للمصالح الحيوية للولايات المتحدة في المنطقة. وبغض النظر عن دوافع ترامب، فإن قراره هذا سيقلص بشكل كبير هامش المناورة الضيق أمام السلطة الفلسطينية وسيدفعها لمواصلة التشبث بموقفها الرافض لعودة الولايات المتحدة لاحتكار جهود الوساطة الهادفة لحل الصراع. ونظراً لعجز الأطراف الدولية عن لعب أي دور في جهود الوساطة، بسبب رفض واشنطن وتل أبيب، فإن رئيس السلطة، محمود عباس، يعي أن الموافقة على استئناف المفاوضات، بعد تطبيق قرار نقل السفارة يعني تسليماً فلسطينياً بإخراج القدس من دائرة المفاوضات، كما أوضح ترامب بشكل صريح خلال مشاركته في مؤتمر دافوس الاقتصادي أخيراً.
وما يزيد الأمور تعقيداً أمام قيادة السلطة الفلسطينية حقيقة أن تنفيذ قرار نقل السفارة يمثل في الواقع تجسيداً عملياً لما ورد في المبادرة الأميركية لحل الصراع، والتي يطلق عليها "صفقة القرن"، والتي كشفت عن بنودها وثيقة صدرت عن مكتب أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، صائب عريقات. وهنا يتبادر للذهن السؤال التالي: هل الإدارة الأميركية، بالتعاون مع حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، معنية بتطبيق ما جاء في "صفقة القرن"، كما كشفتها وثيقة عريقات، من جانب واحد، من دون الحاجة إلى المفاوضات؟ فقد كشفت قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة أخيراً النقاب عن أن ترامب يخطط لإصدار تصريح يدعم فيه موقف إسرائيل الرافض لعودة اللاجئين الفلسطينيين، بحيث يتم تطبيق هذا الحق خارج "الأراضي الإسرائيلية".
في الوقت ذاته، فإن كانت المبادرة الأميركية تتحدث عن ضم مناطق واسعة في الضفة الغربية لإسرائيل، فإن هناك ما يدلل على أن حكومة بنيامين نتنياهو شرعت فعلاً، بشكل صامت، في تطبيق هذا البند تحديداً، إذ إن هذه الحكومة أصدرت عدة قرارات بتبييض عدد من النقاط الاستيطانية التي بناها المستوطنون في أرجاء الضفة الغربية من دون الحصول على ترخيص من السلطات الإسرائيلية. وقد جزم معلق الشؤون السياسية في قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية، عميت سيغل، في مقال نشر في صحيفة "ميكور ريشون" أخيراً، بأن إسرائيل ستتخذ خلال العام 2018 قراراً بضم منطقة "ج"، التي تشكل 60 في المائة من الضفة الغربية.
وتزيد مواقف القوى الإقليمية العربية الأمور تعقيدا أمام قيادة السلطة، إذ إن هذه القوى، وعلى الرغم من إعلانها رفض القرارات الأميركية بشأن القدس، تصر في المقابل على أنه لا بديل عن الوساطة الأميركية، كما أكد ذلك، أكثر من مرة، الملك الأردني، عبد الله الثاني، ناهيك عن أن مواقف واشنطن لم تحل دون وصف وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، للوساطة الأميركية بـ"النزيهة". وعلى الرغم من أن كل المؤشرات دلت على أن عباس ليس بصدد تطبيق القرارات التي اتخذها المجلس المركزي رداً على قرار الاعتراف بالقدس "عاصمة" لإسرائيل ونقل السفارة إليها، والمتعلقة بإعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل، فإن الإسراع بتطبيق قرار نقل السفارة خصوصاً سيحرج عباس أكثر. فبعيد الكشف عن قرار نقل السفارة في 14 مايو/أيار تعاظمت الدعوات من القيادات السياسية والنخب الفلسطينية لوقف التعاون الأمني مع سلطات الاحتلال.
ومع أن عباس سيواصل التشبث بالتعاون الأمني خشية ردة الفعل الإسرائيلية، فإن قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس سيزيد من إصرار الفلسطينيين على تحدي السلطة وتوجهاتها. ويعد إقدام قيادات ميدانية من حركة "فتح"، قبل نحو شهر، على طرد وفد أميركي من بيت لحم، وقيام نشطاء فلسطينيين، قبل أيام، بإحباط مشاركة وفد آخر في مؤتمر بحثي نظم في رام الله، مؤشرين على أن حجم الهوة التي تتسع باطراد بين الجماهير الفلسطينية وقيادة السلطة قد تؤدي إلى صدام بينهما. ومما لا شك فيه أن تطبيق قرار نقل السفارة سيمثل بشرى سارة إلى نتنياهو، الذي تعاظمت الدعوات داخل إسرائيل إلى تنحيه بسبب جدية اتهامات الفساد الموجهة له. إذ إنه، هو وقادة حزب الليكود، سيصورون تطبيق القرار على أنه دليل آخر على نجاح السياسة التي يتبناها، والتي حسنت من مكانة إسرائيل السياسية والاستراتيجية.